.نواقض الإدراك : استثناء الذات
نواقض الإدراك : استثناء الذات
صلاح المختار
من بين أخبث أنواع سرطان الوعي قتلاً لصواب الموقف سرطان استثناء الذات، الذي يوقع الانسان في مخالفة محظورات كان هو بالذات يقدسها، لكنه لخلل ما في آلية ادراكه، يظن انه مستثنى من التقيد بنواهي المحظورات، او انه ، وزمنه وظروفه ، يقع في خانة مختلفة عن زمن وظروف من اصابتهم لعنة التاريخ، بسبب خرقهم لتلك النواهي. وهكذا يرتكب خطيئة الخطايا وهو لايدري غالباً، او انه يكتشف ذلك، ولكن بعد فوات الآوان! ان من يدرس تاريخ الملعونين ، من خونة او مرتدين او مجرمين، والذين اصبحوا رموزاً للعار يضرب بهم المثل، لردع الناس عن ارتكاب الخطايا، سيجد ان جلهم قد التبس عليه الأمر، ووقع في أوهام شجعته على وضع نفسه في قائمة العار.
ارتداء زي الوطنية
من أفظع أشكال سرطان الوعي، ومن ثم موت او تخدير الضمير، قيام مرتدين او خونة تجاوزوا كل الخطوط الحمر، الوطنية والدينية والاخلاقية واعترفوا بتلك التجاوزات ووثقها العالم، بارتداء زي الوطنية عبر الالحاح اللافت للنظر على تكرار استخدام وصف (الوطنية) عند حديثهم، او تسمية احزابهم، او مخاطبة بعضهم للبعض الآخر! وهذا الالحاح هو هتك عفوي، لما يستبطنه هؤلاء من شعور عميق بعار الخيانة، لذلك يعمدون، وعلى نحو تلقائي الى محاولة التعويض ، او التغطية على فعل الخيانة الواقعي بستره بكلمات نقيضة له! وهذه الحالة وان كانت سياسية المظهر إلاّ انها نفسية الجوهر، لذلك ينبغي البحث في سايكولوجيا التمظهر المخادع- ولكن الساذج- هذا الذي برز أوضح مابرز في الساحة العراقية بعد غزو العراق. فقط تذكروا الخونة والعملاء علاوي والجعفري والحكيم والجلبي، وكيف يتعمدون الاكثار من وصف انفسهم ب ( الوطنيين ) تسمية احزابهم ب( الوطنية ) و( الاسلامية ) ! انهم ( كالذي تحت ابطه عنز فيبغج)، اي يصدر صوتا يفضحه ، كما يقول المثل العراقي الشهير .
لماذا هذا الالحاح على استخدام تسميات وطنية واسلامية من قبل تجمعات وافراد هتكوا عرض الوطنية، وخرقوا جوهر وشكل الدين؟ ببساطة لأن هؤلاء، وهم يخدمون الاستعمار، يحاولون التغطية على واقع خدمتهم للاستعمار.
التخيل والواقع : تغطية نقص
ماذا فعل هؤلاء؟ يعرف العالم كله ان كارثة العراق، والتي تتجسد في تدمير دولته، ونهب ثرواته الوطنية والشخصية، ومحاولة محو هويته العربية، وقتل مئات الآلاف من شعبه، واغتصاب المئات من اسراه في معسكرات الاحتلال جنسياً وتعذيبهم جنسياً، رجالاً ونساء واطفالاً، وحرمان الشعب العراقي من الأمن وتعريضه للاهانات اليومية، والقتل العشوائي في الشوارع، وفقدان الخدمات العامة كالماء والكهرباء وغيرهما، وتسليط ميليشيات اجرامية على الشعب العراقي، تعود للاحزاب المذكورة، ان تلك الأعمال وغيرها، هي بحق جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، قام ويقوم بها الاحتلال الاستعماري مستخدماً ليس جيشه فقط، بل تلك الاحزاب.
ويترتب على ذلك أمر اساسي : ان من قاموا بتلك الأعمال هم عصابات مرتزقة، او خونة للوطن، اذا كانوا من العراقيين، ويذكرون بكل من تعاون مع العدو لاحتلال وطنه، ابتداء بأبي رغال والعلقمي وانتهاء بــ(حرامية بغداد).
من الناحية السايكولوجية فإن هذه الحالة هي أنموذج كلاسيكي لشعور عميق بالنقص المكشوف أمام الآخرين، ورغم هذه المكشوفية سجل الاطباء رد فعل غير منطقي، وهو ان الاحساس بالنقص يدفع -احياناً- لملئه بالادعاءات او التظاهر، فاللص يتظاهر بأنه شريف ويصر على استخدام كلمات (الشرف) و (الاستقامة) و(الصدق) و (الاخلاص)، مع أن أقرب الناس إليه يعرف انه لايملك أياً منها، بل يملك نقيضها تماماً! والساقط اخلاقياً، يمارس نفس اسلوب من فقدت شرفها، بالتظاهر بالعفة، والسعي المحموم لاسقاط العفيفات، ليصبح الجميع بنفس المستوى!.وهؤلاء الذين يصرون على وصف أنفسهم وأعمالهم ومواقفهم بالوطنية يعرفون في قرارة نفوسهم انهم ساقطون وطنياً، او مرتزقة لايملكون من الصفات إلاّ أسوأها! ولذلك فإنهم ومثل المفتقر الى الشرف، من اللصوص يتظاهر لملء النقص وللتغلب عليه، ولو بالايهام الذاتي، انهم (وطنيون) و (شرفاء)! لكن مشكلة هؤلاء الأكبر، هي انهم يعرفون جيداً انهم ساهموا في دمار العراق واهانة واغتصاب شعبه، كما لم يفعل العلقمي، الذي سلم بغداد للتتار ليحرقوها، ولذلك رأيناهم يتطرفون في قتل واغتيال الوطنيين العراقيين.
طبقاً لعلم النفس فإن هذا التطرف يستبطن، ويفصح عن شعور دفين وقاتل بالعار والسقوط التام لدى الخونة ، ولذلك يرى هؤلاء بأن الحل الوحيد للتغلب على شعورهم بالعار هو قتل انموذج الطهر والشرف المائل امامهم، إما عن طريق افساده وتوريطه، او عن طريق الابادة الجسدية، وعندها سيصبح بامكانهم ادعاء الفضيلة والطهر، دون اعتراض !
رغبة حميمة، ولكن..!
ان التبرقع بالوطنية رغم ارتكاب فعل الخيانة العظمى، او التظاهر بالشرف، رغم ممارسة اسوأ أشكال الرذيلة والفسق والفساد، هو ضرب من ضروب استثناء الذات، فكل الخونة والفجرة في التاريخ، تصوروا انهم ربما يستطيعون كسر قواعد القضاء التاريخي الخاصة بسلوك الافراد والقادة، بتصور انها لاتنطبق عليهم، ويشجعهم على ايهام الذات هذا، مايملكونه من سلطان او مال، او دعم قوى فعالة، فيقدمون على ارتكاب كل الموبقات الوطنية والاخلاقية، وفي ظنهم ان حكم الناس في زمانهم او بعد ذلك سيخضع لوهمهم وتوهمهم، ويقبل باستثنائهم من احكام قضاء التاريخ! لكن حكم قضاء التاريخ لايخضع لمال ولا لسطوة السلطة، كما انه لايتأثر
بالتضليل والكذب، بل تحكمه الوقائع وتوصيف الوقائع، الثابت في ضمائر الناس وحكمائهم واشرافهم، فيجد الخائن انه دخل سجل الخونة رغماً عن اوهامه ، حتى لو نجح في التزوير لفترة ما .
بين استثناء الذات ، وهو خطيئة كل رموز الخيانة والفساد الاولى، والخضوع لحكم قضاء التاريخ، وهو حاكم يتأخر احياناً في اصدار حكمه، لكن ذاكرة الناس الحية تذكره دوماً بمن خرق القواعد، بين هذين الحدين يقف من دمر العراق، واستخدم في اهانة وقتل وتعذيب شعبه، منتظراً حكم التاريخ الحاسم، ليس بوصفهم خونة، فذلك أمر محسوم، بل بوصفهم هدفاً لعقاب الشعب العراقي، المعنوي وهو ادخالهم سجل الملعونين ورموز الفساد، وهو أمر حصل، والمادي وهو محاكمتهم عقب تحرير العراق لينالوا جزاءهم العادل.
ان مأساة كل الخونة والمفسدين في الارض، تتجسد في كونهم لم يدركوا مبكراً، ان التاريخ وذاكرة الشعب لاتستثني احداً، مهما كان، ألم يذكر تاريخنا عم النبي (صلى الله عليه وسلم) بسوئه ، رغم انه عم سيد الخلق؟ لكن قلة الحكمة ونقص الوعي، او الغرور او اغراء السلطة والمال والجاه، توقع رموزاً معينة في فخ لعنة التاريخ والشعب، ولذلك يسلكون طريق القردة، التي تظن انها جميلة بنظر البشر في حين ان الآخرين يعدونها رمزاً للقبح! انها قصة تتكرر عبر التاريخ ولاتكفي حكمه ومواعظه لتعليم نفر من الضالين والمضللين.
salahalmukhtar@hotmail.com
للعودة الى موقع: سيبقى العراق الى ألأبــــد
0 Comments:
<< Home