Saturday, March 04, 2006

حتى يكون الحوار مجدي: بقلم بشارة مرهج

حتى يكون الحوار مجديا*

بقلم: بشارة مرهج

في الوقت الذي ينهمك فيه المسؤولون الكبار باستقبال الموفدين العرب والأجانب وبحث مسائل استقالة رئيس الجمهورية وشؤون الدولة معهم نلفت أنظارهم الى ان ما يجري على الأرض من احتكاكات وتوترات وممارسات عدائية سواء في المدارس والأحياء او ملاعب كرة القدم لا يبشر بخير ولا هو مجرد تفاصيل عارضة يمكن التغاضي عنها وإنما هو أحداث مثيرة للقلق يمكن أن تتصاعد وتتطور الى ما لا تحمد عقباه إذا استمر إهمالها والتعاطي معها بسطحية، خصوصا في مرحلة تبدو فيها الأجواء السياسية المحلية مشحونة بالتوتر والخوف يزيد من حدتهما أمزجة مضطربة، وحسابات خاطئة، وسرقات مكشوفة، وممارسات ميليشيوية ونزعات مغامراتية ألحقت بلبنان أضرارا فادحة ولا تزال تداعياتها السلبية تتفاعل حتى الوقت الحاضر فقرا مدقعا في الأوساط الشعبية، وتفككا مريعا في البنى الاجتماعية، واستقطابا حادا في الولاءات الطائفية، مقابل تخمة فظيعة لدى قلة من أصحاب القرار السياسي والأمني والاقتصادي (ومن مختلف الأطراف) صادرت الأموال وراكمت الثروات دون أن يرف لها جفن لحالة الأكثرية الشعبية التي تنؤ تحت عبء الضرائب والرسوم فضلا عن الغلاء والخوات والفوائد العالية وضعف القوة الشرائية للعملة اللبنانية. ويكتسب هذا الوضع المعقد بعدا خطرا وحساسا إذا عطفناه على المشهد الإقليمي المتفجر والمحتقن نظرا لإصرار الصهيونية والمحافظين الجدد على إثارة الفتن والحروب الداخلية في دول المنطقة وسلبها سيادتها وإضعافها وتقسيمها الى ملل ونحل وكانتونات ودمغ شعوبها بصفة العجز عن إدارة شؤونها او التعايش مع الآخرين وتحميلهم مسؤولية الصراعات الدموية والممارسات الشاذة التي يمكن أن تُنسي الرأي العام المحلي والدولي جرائم الاحتلال الاميركي البريطاني في ابو غريب والبصرة والفلوجة وغوانتانامو ومعتقلات التعذيب الأميركية السرية في اوروبا فضلا عن جرائم الكيان الصهيوني في جنين ونابلس وغزة وقبلها في مخيم صبرا وشاتيلا الذي ترقد في أحشائه العدالة الدولية وقرارات مجلس الأمن تحت غبار كثيف يتضاعف يوما بعد يوم جراء إهمال الأنظمة العربية -ومن ضمنها النظام اللبناني- واجباتها حيال الشعب الفلسطيني واكتفائها بمساعدات ضئيلة تصل الأراضي المحتلة بشق النفس.

إن القوى الدولية التي تحتل العراق وفلسطين تريد من خلال السياسات القهرية المتنوعة التي تتبعها دفع المنطقة الى الخضوع والاستسلام لمشيئتها ومخططاتها، وهي لذلك تهتم بالتفاصيل كما تهتم بالعناوين فتسعى عبر إعلامها الممسوك، كما عبر الإعلام المستأجر، الى تعميم ثقافة الانقسام والفتنة وتشجيع الناس على التنابذ والتناحر على خلفيات طائفية وعنصرية ومحلية مستفيدة من شهوات البعض للسلطة وخوف البعض الآخر من المساءلة القانونية للجرائم التي ارتكبوها، لتجعل منهم مطية لتكريس نفوذها وتوسيع سيطرتها تحت رايات مزيفة تدعي نشر مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقة نالها الكثير من سطوة الديكتاتوريات وصلف الحكام المحليين. فلو كان الحلف البريطاني الاميركي حريصا على الديمقراطية في العراق، كما يزعم، فلماذا إصراره على استمرار الاحتلال ورفض استبدال قوات التحالف الاستعماري بقوات الأمم المتحدة والجامعة العربية كمرحلة انتقالية محددة يستعيد فيها العراق حريته ووحدته وقدرته على بناء دولته الديمقراطية المستقلة. ولو كان الحلف البريطاني الاميركي حريصا على استقرار العراق كما يدعي فلماذا نشهد كل يوم وفي ظل سلطته اعتداء على جامع او كنيسة كما لم يحصل عبر القرون الماضية حتى وصل الأمر الى نسف القبة المطهرة لمقام الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء بهدف إثارة فتنة داخلية تغطي فشل الاحتلال في تطويع أهل الرافدين.

ولو كانت الصهيونية حريصة على السلام والاستقرار في هذه المنطقة فلماذا الإصرار على تجريد الشعب الفلسطيني من اراضيه وحقوقه يوما بعد يوم بحيث يأتي يوم المفاوضات المزعوم ولا يكون لديه شيء يفاوض عليه. من حقنا مساءلة الذين يمارسون الضغوط اليومية على شعوبنا أين انتم من مواقف اسرائيل وتحدياتها للمجتمع الدولي? أين هو احترامها لوعد الرئيس بوش في "دولة فلسطينية قابلة للحياة"? وأين هو احترامها لخريطة الطريق ومبادرة اللجنة الرباعية والقرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية القاضي بهدم جدار الفصل العنصري والتعويض على الشعب الفلسطيني الخسائر التي لحقت به نتيجة المراحل الأولى من هذا الجدار الذي يبلغ طوله 650 كيلومترا وبعرض 40 – 120 مترا ويقضم حوالي 15 بالمئة من اراضي الضفة الغربية بعد أن يشرد أهلها.

بالطبع، إن هذه الأسئلة تجيب عن نفسها. فالذي رفض مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002 هو الذي يضع المنطقة على فوهة بركان. ولم ننس بعد كيف اقتحمت اسرائيل بعد تلك القمة الضفة الغربية بقيادة شارون وشدت الأنظار الى الحرب بعدما كانت الأنظار مشدودة الى السلام. لقد "انتفض" الرئيس بوش يوم ذاك وقال "على القوات الاسرائيلية أن تنسحب فورا. قرت عيون اصدقائه في المنطقة الذين قالوا: "أرأيتم إن عصر الحلول العادلة قد بدأ ومن له أذن فليسمع". وعندما سئلت كوندوليسا رايس بعد يومين عن موقف رئيسها قالت بالفم الملآن "عندما يقول الرئيس يجب على القوات الاسرائيلية أن تنسحب فمعنى ذلك إن على القوات الاسرائيلية أن تنسحب فورا. وازداد فرح الأصدقاء واشتد إيمانهم بالسيد الأميركي.

ثم مرت ايام على تصريحها فسئلت مجددا: "هل ما زلت على موقفك?" فقالت إن الأمر يحتاج الى ايام وترتيبات لتنفيذه. وبدأت رحلة التملص. وعندما اقر مجلس الأمن بناء على طلب الجانب الفلسطيني إرسال مراقبين دوليين برئاسة بيتر فيتزجيرالد (ما غيره) انتظر موفاز وصول المراقبين الى جنيف فأعلن رفضه استقبالهم وهددهم بالطرد إذا هبطوا في مطار بن غوريون.

نسرد هذه الأحداث لتذكير المذهولين والمعجبين بالتحركات الاميركية الحالية ان الخيار رقم واحد لواشنطن في المنطقة لا زال كما كان: حماية اسرائيل وتمكينها من التفوق على مجموع الدول العربية ودعمها في رفضها الصارخ لقرارات الشرعية الدولية ومساندتها على امتلاك أسلحة الدمار الشامل ودعم خططها المرسومة لهدم المسجد الأقصى وإقامة الدولة اليهودية الخالية من الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق.

فالوعود الاميركية مهما كانت جذابة لا يجوز المراهنة او البناء عليها خصوصا إذا كانت تحرض على الانقسام والمواجهة الداخلية، بل يجب إخضاعها لمعايير المصلحة الوطنية العليا التي ترتبط عضويا بوحدتنا اللبنانية وسلمنا الأهلي.

ولذلك يجب اخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار عند البحث في الدعوات الاميركية لحسم العديد من القضايا الكبرى التي تشغل اللبنانيين في هذه المرحلة. فإذا كان التغيير الرئاسي مطروحا على بساط البحث لدى أوساط لبنانية فاعلة ونافذة وحاكمة فهناك أمور أخرى ايضا مطروحة على بساط البحث ايضا لدى أوساط أخرى لها حضورها وجمهورها ونفوذها في بلد يعرف اهله ان التركيز على امر دون آخر يؤدي الى الاستقطاب والانقسام، وان لا مصلحة ولا إمكانية لطرف أن يحتكر السلطة فيه مما يجعل الحوار خيارا يتقدم على كل الخيارات. وجدول الحوار يجب أن يلحظ الأمور الاساسية لدى الأطراف دون أن يصبح جدولا طويلا يتعذر الاحاطة به فيصبح مدخلا للتمييع والتنصل من المسؤولية.

إن التركيز على موضوع واحد فقط –رئاسة الجمهورية- بعض النظر عن الذهنية التي تقف وراءه لا يؤدي الى تفكيك العقد السياسية التي تمسك بخناق الحياة اللبنانية في هذه اللحظة.

وحتى يستقيم الحوار ويتوازن يتعين البحث في استقالة الرئيس لحود في إطار نظرة شاملة للتغيير وفي إطار المصلحة الوطنية العليا التي تحتم الحوار وتفادي المقاربات الفئوية الاستنسابية التي تعتمد منطق الثأر في بلد لا يقوم إلا على التوافق. فالحوار الوطني يأخذ بعده الايجابي إذا جاء مترابطا مع إرادة وطنية شاملة لتجديد بنية المؤسسات الدستورية كلها على أسس حديثة وعادلة وفاعلة. وهذا يطرح حكما إجراء انتخابات نيابية جديدة على اساس قانون جديد يعتمد النسبية ويكون جاهزا في القريب العاجل، كما يطرح إعادة الحياة الى المجلس الدستوري الذي يعكس وضعه البائس اليوم رغبة البعض في التسلط والاستئثار وتعطيل مبدأ المراجعة الذي لا تستقيم بدونه العملية الديمقراطية.

والحوار الوطني يكون مجديا ومثمرا إذا توجه لجمع اللبنانيين حول الحقيقة التي يجب أن تظهر في التحقيق الدولي حول الجريمة النكراء التي سقط فيها الرئيس رفيق الحريري شهيدا من اجل لبنان وحريته واستقلاله.

والحوار الوطني يكون مجديا ومثمرا إذا عالج موضوع المقاومة وسلاحها من ضمن نظرة شاملة وايجابية تأخذ بعين الاعتبار أوضاع المنطقة واحتلال اسرائيل لأراض لبنانية وخروقاتها وتهديداتها الدائمة فضلا عن الأسرى والمعتقلين والمخطوفين الذين ترفض إطلاقهم. فالمقاومة عامل استقرار وتوازن كما أثبتت التجارب. وهي مقاومة شعب قبل أن تكون مقاومة حزب اثبت التزامه الدفاع عن حق اللبنانيين في الحرية والسيادة والكرامة واستعداده في الوقت نفسه لمناقشة كل الصيغ التي يمكن أن تؤدي الى حماية لبنان وطمأنة الجنوبيين وسائر اللبنانيين الى غدهم المرتبط حكما بمنظومة دفاعية عمادها الجيش الوطني. وهنا يجب النظر الى أوضاع وآلام أهلنا الذين عانوا من الاحتلال وظلمه عشرات السنين والذين لم يشعروا بالاستقرار وهناء العيش إلا بعد التحرير الذي حققته المقاومة بالتضحيات الجسام وعبر آلاف الشهداء الأبرار. إن المخاوف والمعاناة ليست موجودة عند طرف دون آخر. ومن شروط "اللبنانية" المعاصرة إدراك هذه الحقيقة ورفض منطق المحاصصة والامتيازات.

وحتى يكون الحوار مجديا ومثمرا لا بد من الاحتكام الى المنطق والعقل في موضوع العلاقات اللبنانية السورية بعيدا عن الانفعالات والمواقف التي تستدعي قوات الاحتلال او تعتبر سوريا عدوا انطلاقا من لحظة سياسية عاصفة او انطلاقا من أخطاء يعرفها القاصي والداني.

ومن المصلحة هنا البناء على موقف الحكومة الهادىء في هذا النطاق والساعي، رغم المزايدات، الى تطبيع هذه العلاقات على قاعدة التكافؤ والاستقلال والسيادة.

وحتى يكون الحوار مجديا ومثمرا لا بد ايضا من معالجة الموضوع الفلسطيني في لبنان ومشاكله وسلاحه على قاعدة متكاملة تجمع اللبنانيين حول القرار الدولي رقم 194 وضرورة التعامل مع الفلسطينيين كأخوة وأشقاء وتأمين الحماية الشرعية لهم ومساعدتهم على تحسين أوضاعهم وإيجاد فرص عمل حقيقية لهم تحمي اولادهم شرور العوز والانحراف.

والحوار الوطني يأخذ بعده الايجابي إذا اقترن بإرادة وطنية شاملة يفترض ان يمثلها أطراف الحوار من اجل معالجة الأوضاع الاقتصادية والمالية وإنقاذ لبنان ومواطنيه من سلطة الجشع والاحتكار والاستغلال التي استباحت المال العام وضربت شبكات الامان الاجتماعي، وحوّلت اللبنانيين الى موظفين وعمال لديها يعيشون على مستوى الكفاف.

والحوار الوطني يأخذ بعده الايجابي إذا اقترن بإرادة وطنية فاعلة لتكريس استقلال القضاء كي يتمكن من ممارسة صلاحياته في إشاعة العدل وتطمين اللبنانيين والمستثمرين الى حقوقهم وممتلكاتهم ومعالجة الملفات الشائكة وفي طليعتها ملف "بنك المدينة" الذي يلخص أزمة البلد الأخلاقية والمالية والسياسية.

والحوار الوطني يأخذ بعده الايجابي إذا تفهم ضرورة إصلاح الإدارة وتعزيز استقلاليتها عن السياسة وتحويلها الى مؤسسات خاضعة للمساءلة والمحاسبة، محصنة في وجه السياسيين، عاملة لمصلحة المواطنين.


بيروت، آذار 2006

للعودة الى موقع: سيبـقى العــراق الى ألأبـــــــــــد

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

  

Webster's Online Dictionary
with Multilingual Thesaurus Translation

     

  English      Non-English
eXTReMe Tracker