المتغيرات.... ايضا تتغير
المتغيرات.... ايضا تتغير
الذين دعوا العرب الى التخلي عن كثير من ثوابتهم المبدئية فعلوا ذلك بداعي وجود متغيرات ضخمة في العالم ينبغي فهمها والتعامل معها والتكيف مع متطلباتها بل حتى الاستفادة منها حين يكون ذلك ممكنا...
والمتغيرات كثيرة حسب هؤلاء لعل ابرزها سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه الحرب الباردة وبروز الولايات المتحدة كقوة رئيسية وحيدة في العالم، ثم جاءت احداث 11 ايلول/ سبتمبر وتداعياتها ايضا خصوصا اطلاق العنان لاستراتيجية المحافظين الجدد الراغبين عبر حروب استباقية ان يشيدوا في العالم امبراطورية امريكية وحيدة، مديدة العمر، ظاهرها نشر الديمقراطية في العالم وجوهرها مد النفوذ الامريكي الى كل بقاع المعمورة.
ولا يستطيع أي مراقب عاقل ان ينكر الحقيقتين الانفتي الذكر اللتين طبعتا عالم ما بعد التسعينات من القرن الماضي، ولكن ما يحتاج فعلا الى نقاش، هل ان هذا الواقع الدولي الجديد لا يتغير هو الاخر، بل هل هذه المتغيرات اصبحت ثوابت جديدة لدى عقائديي النظام العالمي الجديد، واستطرادا لدى المروجين لمشروع الشرق الاوسط الكبير في منطقتنا.
والسؤال الاول هل نحن فعلا امام عالم احادي القطبية الى ما لا نهاية، ام اننا بدأنا نشهد تراجعا امريكيا سواء لمصلحة شركاء جدد او في وجه منافسين تنمو قواهم الاقتصادية والسياسية .
هل العلاقة الامريكية – الاوروبية مثلا هي ذاتها تلك التي شهدنا تأزمها خلال الحرب الامريكية على العراق حين وصف وزير الدفاع الامريكي اوروبا المعترضة على تلك الحرب بانها "اوروبا القديمة"، وحين اصر سناتور امريكي على تغيير اسم "البطاطا الفرنسية" الى "بطاطا الحرية"، ام اننا بتنا نشهد اتجاها امريكيا متزايدا يدرك اهمية الشراكة السياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية، من جديد مع اوروبا وقد بات اقتصادها الاكبر حجما في العالم، كما نجحت عملتها في التفوق على الدولار، وفي ان تصبح عملة عالمية تنافسه في احتياطيات البنوك المركزية وفي تسعير السلع.
وهل الصين اليوم هي ذاتها، اقتصاديا واستراتيجيا، "صين" نهاية التسعينات من القرن الماضي، ام انها اخذت تتحول الى هاجس متزايد يتحكم بالسياسات الامريكية لا سيما في اسلوب معالجة البرنامج النووي الكوري الشمالي، حتى لا نتحدث عن الخوف الامريكي المتزايد من استراتيجية صينية غير معلنة ازاء العديد من دول شرق وجنوب اسيا، بما في ذلك الباكستان نفسها التي بدأ رئيسها برويز مشّرف يشعر ان كلفة الاذعان للمطالب الامريكية باتت اكبر بكثير من مغانم هذا الاذعان (خصوصا مع الغارة الجوية الامريكية الاخيرة على مناطق باكستانية دون حتى استئذان حكومة اسلام اباد)، كما بدأ يشعر ان بكين قادرة على مساعدته، لا سيما في مواجهة الهند، اكثر مما تستطيعه واشنطن هذه الايام.
وهل روسيا الاتحادية ما زالت هي الاخرى رهينة كاملة للضغط الامريكي القائم على ركنين رئيسيين، اولهما الحاجات اليومية للاقتصاد الروسي المتعثر، وثانيهما الازمة الشيشانية التي يشتعل فتيلها كلما ارادت واشنطن اسكات الاعتراض الروسي على احد قراراتها الرئيسية في مجلس الامن، ام اننا بدأنا نشهد تململا روسيا" يعبر عن نفسه تارة بالملف الايراني، (واجتماعات لندن الاخيرة التي لم تنجح في احالة هذا الملف الى مجلس الامن دليل واضح)، كما يعبر عن نفسه ايضا في ملف العلاقة مع سوريا، دون ان يعني ذلك ابدا خروج موسكو نهائيا من فلك التأثير الامريكي وخصوصا بعد ان غاب الصوت الروسي تماما عن المسرح الدولي في فترات سابقة.
نضيف الى ذلك كله ما يجري في امريكا اللاتينية من تطورات جعلت الرئيس الفنزويلي شافيز يتحول من رئيس مهدد في رئاسته بفعل الانقلابات او التظاهرات الى شريك لفيدل كاسترو في قيادة حركة تمرد واسعة في "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة حيث تحمل الانتخابات الرئاسية كل شهر تقريبا الى الحكم في احدى دول تلك القارة رئيسا او رئيسة من الصفوف المناهضة للهيمنة الامريكية، وحيث رأينا في قمة الامريكيتين الاخيرة شبه انتفاضة على سياسات العولمة الامريكية عبّرت عن نفسها بتحفظات واضحة ازاء اتفاقية السوق الحرة التي ارادت واشنطن تمريرها.
في ضوء هذا كله، هل نستطيع القول اننا على المستوى الدولي امام الواقع ذاته الذي تبلور في بداية التسعينات من القرن الماضي ووصل الى الذروة في السنوات الاولى من العقد الاول في هذا القرن، لا سيما مع احتلال افغانستان والعراق، ام ان المشهد الدولي آخذ في التغير مع استمرار حد من المراعاة ،المفهومة الاسباب، للدور الامريكي..
وعلى صعيد آخر، هل ما زالت استراتيجية المحافظين الجدد، وفكرة الحروب الاستباقية، تحتفظ بالزخم ذاته الذي كانت تمتلكه مع وصول الرئيس بوش الابن الى الرئاسة عام 2000، بقرار قضائي، ومع الحماسة الامريكية للحرب على ما يسمى بالارهاب التي رافقت احداث سبتمبر...
لا اعتقد ان من يتابع السياسة الداخلية في الولايات المتحدة تغيب عنه رؤية التراجع الملحوظ في شعبية الرئيس الامريكي جورج بوش بين الامريكيين، اولا يلاحظ ارتباكا في صفوف الحزب الجمهوري ذاته تمثلت مؤخرا باستقالة رئيس الاغلبية الجمهورية في مجلس النواب الامريكي ولتوم ديلاي من منصبه لمحاصرته مع عدد من اركانه بفضائح الفساد والرشوة والكذب وغيرها، وهي بالمناسبة فضائح باتت تنبت كالفطر في الوسط الذي يعتمد عليه الرئيس بوش والتي قد تطاله شخصيا مع اتساع التحقيق بفضيحة تسريب المعلومات عن احدى عميلات المخابرات المركزية الامريكية لمعاقبة زوجها السفير السابق ويلسون الذي كشف تجاهل البيت الابيض بتقريره عن عدم صحة شراء العراق لمواد محظورة من النيجر، وهو تحقيق قد يؤدي الى كشف دور مدير مكتب الرئيس الامريكي كارل روف ودور زعيم الاغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ بيل فرست، حتى لا نتحدث عن اثارة موضوع التنصت والدعوة القوية الى التحقيق فيه، ناهيك عن انفضاض العديد من الحكام والنواب الجمهوريين عن بوش نفسه، خصوصا بعد فضيحة اعصار كاترينا، وبعد فشل بوش في تمرير برامجه الداخلية في الكونغرس رغم انتخابه لولاية ثانية..
وعلى صعيد منطقتنا، لا يستطيع أي محلل موضوعي ان يغفل حقيقة فشلين كبيرين للسياسة الامريكية في المنطقة اولهما سياسي في فلسطين، حيث سقطت كل وعود بوش وتعهداته وخططه ومواعيده بالنسبة لايجاد تسوية للقضية الفلسطينية عنوانها دولة مستقلة مع حلول عام 2005، ناهيك بمصير "خارطة الطريق" التي دفنها شارون نفسه قبل ان يدفنه الاسرائيليون سياسيا اثر الجلطة التي اصابت دماغه.
اما الفشل الثاني فهو فشل عسكري وسياسي في العراق، حيث ترتفع الكلفة البشرية الامريكية بمعدل متسارع على يد عمليات المقاومة العراقية، وقد بلغ عدد عملياتها في الاسبوع الاول من الشهر الفائت (أي بعد الانتخابات) اكثر من 400 عملية باعتراف المصادر الامريكية ذاتها، وهو فشل تعبر عنه يوميا تصريحات كبار العسكريين الامريكيين ومعظم التقارير الصادرة عن مراكز امريكية متخصصة.
كما نكتشف حجم هذا الفشل سياسيا في العراق حين نواكب الارتباكات الحالية المتعلقة بالانتخابات الاخيرة، ومن ثم بتشكيل الحكومة، وبتصاعد الاصوات الداعية الى تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الامريكية، وبقرارات عدد من الدول الحليفة بسحب قواتها، وبتردد العديد من الدول العربية عن ارسال قوات عربية للعراق تكون مهمتها تغطية الاحتلال وحماية افرازاته، وهو فشل عبر عنه العديد من المسؤولين الامريكيين السابقين كوزير الخارجية السابق كولن باول، والحاكم الامريكي السابق للعراق بول بريمر نفسه، بالاضافة الى استطلاعات الرأي العام الامريكي التي تشير الى تراجع شعبية بوش وزيادة عدد المعترضين على السياسة الامريكية في العراق.
وعلى الصعيد الاقتصادي والمالي تتزايد بوضوح الكلفة الاقتصادية والمالية الامريكية لهذه الحرب، والتي بلغت مئات المليارات من الدولارات في حين كانت التقديرات الامريكية لكلفة الحرب اساسا لا تزيد عن الست مليارات دولار، ناهيك عن الارتفاع الكبير في اسعار النفط وهي اسعار مهددة بالارتفاع الجنوني فيما لو تطورت الازمة بشكل سلبي مع ايران.
ولكي نستدرك الامر لا بد من القول بان ايراد مجمل هذه الوقائع قد يشكل دعما لانطباع متزايد بان ما يريده البيت الابيض ليس بالضرورة قدر لا يمكن مواجهته، ولكنه في الوقت ذاته ، لا يعني ان الولايات المتحدة باتت عديمة التأثير والنفوذ وانها لم تعد تملك العديد من اوراق القوة التي تستطيع من خلالها ان تمارس دورا كبيرا في منطقتنا والعالم، فكل عاقل يدرك هذا الامر...
لكن المعادلة الحقيقية التي ينبغي فهمها وادراكها، انه اذا كان من الصعب الحاق الهزيمة الكاملة بالسياسة الامريكية في مدى منظور، فانه لم يعد من السهل على الادارة الامريكية ان تفرض ما تريد في المنطقة والعالم.
ان الادارة الامريكية اليوم هي بالطبع اقوى من ان تنكسر، ولكنها اضعف من ان تفرض هيمنتها الشاملة في المنطقة والعالم لا سيما اذا وجدت مقاومة او ممانعة او اعتراضا.
هنا اذكر كلمة قالها لي مواطن عراقي عشية الحرب على العراق: نحن نعرف ان جيوش امريكا اقوى من جيوشنا ولكننا نعرف ايضا اننا نحن في ارضنا سنكون اقوى منهم.
ولعل هذا ما يفسر هذا الالحاح الامريكي المحموم على تصفية كل مواقع المقاومة والممانعة والاعتراض المتنامية والمتزايدة في منطقتنا والعالم.
الا تستحق كل هذه التطورات مراجعة للذين يدعون كل يوم الى التعامل مع المتغيرات ثم يتصرفون وكأن هذه المتغيرات باتت ثوابت لا فكاك منها.
ربما تسيطر واشنطن وادارتها الحالية على الفضاء، والكثير من "الفضائيات"، وان برنامجها "للتضليل الاعلامي" كان اكثر نجاحا من خطتها للامساك العسكري، ولكن واشنطن لن تستطيع السيطرة على منطقة مشتعلة تمتد من كابول الى غزة، فهي كما قال النائب البريطاني جورج غالاواي قد تستطيع ان تسيطر على اجواء العراق ولكن لا تستطيع السيطرة على شارع في الفلوجة.
نعم ايها السادة، المتغيرات ذاتها تتغير... فهل تريدون قراءتها وهي تتغير. نرجوا ان تفعلوا.. فترتاحون، وتريحون...
للعودة الى موقع: سيبقى العراق الى ألأبـــــد
0 Comments:
Post a Comment
<< Home