نواقض الرمز: إنزاله ارضاً
اعجبني المقال الجديد للأستاذ صلاح المختار والذي كان بعنوان (نواقض الرمز) .. وفيما يلي مقطعا منهُ.. ولمن يرغب الاطلاع على نص المقال فيمكنهُ ذلك عن طريق الضغط على عنوان المقال:
نواقض الرمز: إنزاله ارضاً
صلاح المختار
الرمز من بين اهم مكونات الهوية وعناصر المحافظة عليها، بنفس الوقت، وهو نتاج تطور تاريخي، قد يكون طويلاً، تختلط فيه التقاليد والوعي والمصالح، فيثمر ذلك رموزاً مقدسة، أو محترمة، أو أنها من مداميك التميز في مختلف مجالاته. ومنذ فجر التاريخ كان الانسان يصنع رموزه ويجلها، أو يعبدها، وكانت الرموز الابتدائية، والبدائية، تعتمد على، وتنطلق من، الظواهر المحيطة بالانسان، سواء كانت طبيعية، كالمطر والنار والبرق والزلزال، أو ميتافيزيقية، كغرابة الوجود والخلق، وما فيهما من ولادة ونماء وموت. ونتيجة بدائية تفكير الانسان القديم كان يظن ان كل ما يحيط به خاضع لقوى شريرة تهدد وجوده، ولذلك كانت الرموز الاولى هي رموز رشوة، فذلك الانسان كان يختلق رمزاً من حجر أو شجر أو نجوم، ويقدم له الاضاحي، المادية والحيوانية، وحتى البشرية، كي ترضى عنه القوى الشريرة. ومع تطور وعي الانسان وارتقائه تطورت الرموز، واصبحت بغالبيتها رموزاً دينية أو قومية أو فنية.
فلكل دين رموزا مقدسة، فنحن رمزنا المقدس هو القرآن الكريم، وما يرتبط بالاسلام من رموز اخرى، وعلى المستوى القومي لدينا رموز مهمة جداً، اهمها اطلاقاً هويتنا العربية، والتي تعد رمزاً انسانياً مميزاً عبر القرون. وهناك رموز وطنية وهي القادة العظام والقوى السياسية ذات الهوية الوطنية، والعلماء والفنانون الكبار.
جوهر الرمز: رفعته
إن السمة المشتركة في كل الرموز، هو انها رفيعة ومحترمة وتوحي بمعان نبيلة، أو مقدسة. وبدون هذه السمة يفقد الرمز تأثيره الطاغي في نفوس الافراد والامم، ولذلك تبلور تقليد قديم، هو أن يعامل الرمز بالتبجيل والاحترام، الى الحد الذي يبعد فيه حتى عن الشكوك والتشكيك. فالرمز هو كذلك لانه اجتاز اختبار علويته ورفعته، فاختاره الناس رمزاً، وصار معياراً للصواب والخطأ، أو العبقرية والقداسة، في ذاكرة الافراد والامم، ومن يدرس تاريخ الامم يلاحظ بسهولة الدور الحاسم الذي لعبته رموزها في انتصاراتها وحضاراتها وتماسكها الوطني أو الديني.
ومن مظاهر التماسك داخل أية وحدة انسانية (قبيلة، شعب، حزب،دين) وجود معايير رمزية تحكم سلوكهم وخياراتهم، بما في ذلك الخاصة احياناً، وبما ان الشعوب مختلفة في اتجاهات تطورها التاريخي، نشأت تقاليد وثقافات مختلفة، ومن ثم اختلفت قيمة الرموز تبعاً لاختلاف الافراد والأمم والاديان. واذا نظرنا الان إلى ما يجري من حولنا، وداخل وطننا العربي الكبير، سنجد اننا مهددون وان اهم رموز هويتنا تجري محاولات مبرمجة لافقادها سموها أو قدسيتها، بانزالها إلى الارض وتشجيع المس بها، والتقليل من شأنها، بل ورفضها احياناً.
نماذج موحية.
ابتدأت عملية انزال رموز العرب والمسلمين إلى الارض، وعلى نحو مخطط في اطار استراتيجية غربية - صهيونية، بالتشكيك بالعروبة ووحدة العرب، وكانت الخطوة الاولى اسقاط رموز العروبة عبر التعجيز، ومثال عبدالناصر بالغ الوضوح ثم توسعت العملية، واصبحت اسقاط رموز التقدم العربي، بتدمير خطط التنمية العربية العصرية، ومثال العراق يتجسد الآن للعيان. وبعد ان تم هز رموز العروبة والتجرؤ على الطعن بها
بدأت خطة انزال رموز الاسلام ارضاً، فأخذ بعض المتجحفلين مع الصهيونية والغرب، وهم (الليبراليون الجدد) العرب، يناقشون وينقدون ويرفضون آيات قرآنية مقدسة! وكان محور اساليب تنفيذ هذه الخطط هو ما يسمى في الغرب بـ(الشطينة).. دعونا نناقش ذلك.
شيطنة العروبة.
ما إن بدأ عصر نهضة قومية جديد في الخمسينيات على المستوى العربي، ببروز الرئيس جمال عبدالناصر، حتى اكتملت الشروط المباشرة للنهضة، وهي وجود حركة جماهيرية منظمة انبعاثية وقيادة كارزمية (جذابة) على رأس أكبر دولة عربية، وفي تلك اللحظة التاريخية صعد (ولا اقول تبلور) رمزان: رمز القائد القومي، وهو عبدالناصر، ورمز قوة وتطلعات وآمال العرب، وهو الوحدة العربية. وتؤكد الوقائع التاريخية ان كل نهضات الشعوب قد اقترنت بصعود قائد قومي تاريخي واستناده على حركة جماهيرية كبيرة، لان الانتصارات العسكرية واخضاع دول اخرى مستحيل بالوسائل العسكرية وحدها، مهما كانت القوة ساحقة، فلابد من كسب دعم قطاعات واسعة من الجماهير لضمان استمرارية الامبراطورية وتوسعها.
الكسندر الكبير ما كان له ان يصل للهند من اوروبا لولا نجاحه في ضم قوى كافية من شعوب اخرى، كما ان الفتوحات الاسلامية ما كان لها ان تنجح في كسب العقول والقلوب، لولا مبادئ الاسلام المقنعة، والقيادات الكارزمية التي قادت الفتوح مثل سعد بن ابي وقاص وخالد بن الوليد وطارق بن زياد ومحمد القاسم.. الخ ما كان لها ان تنتصر لولا عبقريتها.. كيف ننظر إلى احداث التاريخ؟
ببساطة نحن نتحدث عن الكسندر الكبير وقادة الفتوحات الاسلامية مثلاً، مثلما نتحدث عن افكار الكسندر ورسالة الاسلام، فالرمز هنا تجسد في اشخاص مثلما تجسد في مبادئ. في حالتنا، ما ان تجسد الرمز في عبدالناصر وفي الوحدة العربية، بصفتها التعبير الأرقى لتطور علاقات العرب ببعضهم، حتى شرع الغربوالصهيونية في محاولة تحطيم الرمزين، فعبد الناصر جرت شيطنته، أي تشويه صورته، وزرعت عقبات في طريق انجاز مشروعه النهضوي، مثل الحروب والازمات الاستنزافية (مادياً ومعنوياً) وتوج ذلك كله بهزيمة حزيران 1967م .
وبتدهور ثم سقوط تجربة عبدالناصر بدأت الخطوة التالية: تهشيم الرمز القومي (الوحدة العربية) إن فصل سوريا عن مصر بانقلاب ايلول 1961م لم يقض على الوحدة العربية، كهدف قومي يرمز لعزة العرب وقوتهم، بل اصابه بضرر حفز القوميين العرب على تنقية مفهوم الوحدة من شوائب التصقت به. لقد ابتدأت شيطنة الوحدة
العربية، كما عبدالناصر بانزالهما إلى ارض النقاش المبتذل المشحون بالتضليل والاكاذيب.
رمز النجاح
إن (خطيئة) العراق الاعظم هي أنه نجح في تجاوز الخطوط الحمر التي وضعها الغرب والصهيونية وطلب من العرب عدم تجاوزها، واهمها البقاء معتمدين على الغرب، ثم على اسرائيل، في كل شيء من الطائرة إلى الابرة، منع حيازتهم ومنع هضمهم للعلوم والتكنولوجيا الحديثة، ومنع تحقيق الوحدة العربية - بل وحتى التضامن العربي، ومنع المطالبة بحقوق العرب في فلسطين.. الخ. هذه الخطوط تجاوزها العراق تحت قيادة الرئيس صدام حسين، باقتدار أذهل الصديق قبل العدو، فاصبح ضرورياً جداً تدمير رمزين: العراق المتقدم والواحد وقائد العراق الذي بنى العراق الجديد. وكما في حالة مصر بدأت الشيطنة، بترويج اكاذيب خالصة أو بتضخيم اخطاء طبيعية وجعلها تبدو شاذة!
التدنيس التدريجي
إن عملية القضاء على رفعة الرمز، تتم ببطء وبتتابع مدروس، والآن يستطيع من يتابع الفضائيات العربية (خصوصاً الجزيرة والعربية) ان يلاحظ بسهولة أن المقدس تجري عملية تحويله إلى (عادي) يمكن المس به والطعن. أقرأوا في موقعي الجزيرة والعربية نصوص بعض برامجهما، ستجدون انها قامت به، وتقوم، على نزع القدسية، فالاستعمار الذي كان قرين الشيطان بالنسبة لكل ا نسان عربي، عرض على أنه قد يكون مفيداً وبناء! والعروبة أوهام وخطايا، والشرف نسبي، والغزو فيه ايجابيات (اسقاط نظم غير مرغوب فيها)، و الجيوش الوطنية يمكن تهاجم وتقتل! والحوار الايجابي يتحول إلى صراع ديوك!
أما الاسلام فتجرى عملية شيطنة مدروسة له: فهو (دين ارهابي) وهو المسؤول عن تخلف العرب والمسلمين، ومن ثم يجب إعادة تشكيله، وانتاج اسلام معتدل! نقض الرمز هنا مدفون في بطن البديل: الاسلام الحقيقي يراد تزويره وقلبه ليقف على رأسه بدل قدميه! إن الفضائيات العربية اصبحت (حصان طروادة) الذي يخفي كل عوامل تدمير الرمز وانزاله إلى الارض، تحت شعار هو الاخر شيطاني الهوى: صراع الافكار وحرية التعبير! وحينما تسأل تلك الفضائيات لم تسمحون بالمس بكل الحكومات والجهات الاخرى لكنكم تتجنبون المس بمن يملأ جيوبكم بالدولارات؟ لا يجيبون!
نشر صور
حينما نشرت صور سجن أبو غريب كان من بين دوافع ذلك، المس الصاعق باهم رموز العرب بعد الايمان بالله، وهو الشرف. في كتاب أسمه (العقل العربي) للباحث الاسرائيلي (رافائيل باتاي) نشر في السبعينيات، يقول انك تستطيع قتل العربي معنوياً بالطعن بشرفه، والشرف متعلق بالحصانة الجنسية. و ما قام به قادة الجيش الامريكي في العراق، من عمليات اغتصاب جنسي للاسرى، من نساء ورجال واطفال، وتصوير ذلك عمداً وفق خطة ونشره، يقع في اطار المس بالشرف حسب ما ورد في كتاب بتاي.
وجاء الاعتراف الكامل والرسمي على لسان قائد عسكري امريكي سلم صور الرئيس الاسير صدام حسين لجريدة (صن) البريطانية حينما قال: نريد بنشر صور صدام حسين عارياً ونائماً وهو يغسل ملابسه، ان نكسر معنويات المقاومة العراقية.
نعم، المس بالشرف العربي هو طعن برمز عظيم، ولكن ما فات على صهاينة امريكا هو ان الاعتداء على الشرف من قبل آخرين يترك رد فعل مختلف تماماً عن رد فعل مس الشرف من قبل الشخص ذاته، ففي الحالة الاولى من يقوم بذلك هو عدو يريد تحطيم الرمز، لذلك فرد الفعل الطبيعي هو الثأر والتصلب في السعي إليه، أما في الحالة الثانية فإن من قام بالمس هو الـشخص ذاته، لذلك توجب عقابه هو بصفته رمزاً للعار.
في حالة ابو غريب كانت النتيجة هي التصعيد غير المسبوق للمقاومة العراقية المسلحة، وليس تنكيس العقال العربي -كما اريد اصلاً- وفي حالة نشر صور الرئيس صدام حسين، فإن رد الفعل اخذ يظهر رأسه اولاً حتى من كانوا اعداء لصدام حسين ادانوا العمل ووصفوه بـ(الخسيس)، أما الشعب العراقي فقد وجد فيه دليلاً اضافياً على أن امريكا غزت العراق ليس لنهبه فقط وليس لتدمير انجازاته المادية فقط، بل وايضاً لتدمير قيمه ورموز القداسة فيه، واحتقار كل ما هو محترم ونبيل!
غداً بعد ظهور رأس رد الفعل، سيظهر الكتف ثم الصدر وبقية الجسد، هل تعلمون ما معنى ظهور جسد رد الفعل كاملاً؟ إنه يعني أن امريكا ستدفع ثمن جرائمها المادية كاملاً، مثلما ستدفع ثمن جرائمها المعنوية كاملاً أيضاً، فالعراقيون شعب عريق يتمسك بتقليد ان يخلص في حب من يحبه وان يرد على الاهانة حتى بعد الف عام.
لذلك فإن تكتيك انزال الرموز ارضاً، سواء بنشر صور او بالاغتصاب، لن ينقض الرمز، بل سيعزز مكانته ويرفعه إلى سماوات أعلى. salahalmukhtar@hotmail.com
للعودة الى موقع: سيبقى العراق الى الابد
<< Home