ايجاز عن طبيعة النشاط التاريخي السياسي لحركة القوميين العرب
سليم نقولا محسن
1- هي تنظيم سياسي قومي، امتد إلى معظم الأقطار العربية، وانتشر بين شبابها مع انتشار أفكار ثورة 23 تموز التقدمية التحريرية، وصعود زعامة عبد الناصر الشعبية على الساحة العربية، وتعاظم تأثيره في شبابها، من سوريا والجنوب العربي والعراق إلى مصر وليبيا والسودان، إذ كانت الحركة بمثابة البديل عن غياب التنظيم الناصري، لذا غلبت على معظم عناصر قواعده التوجهات الناصرية بما تحتوي من مفاهيم التمرد والرفض للدولة الإقليمية وممارساتها، فعُرف بأنه تنظيم ذي طبيعة ناصرية، إلى أن بدأت النقلات الفكرية الماركسية بكل تلاوينها من اللينينية إلى الغيفارية - كنظريات سياسية علمية يمكن تطبيقها - في محاولة غير موفقة من الداعين إليها لمحاكاة صيغ تطبيقاتها العالمية في اجتهاد يزاوجها مع الأفكار القومية في المنطقة العربية: وذلك على أثر العجز النضالي الفاضح الحاصل عقب واقعة انفصال أيلول عام 61 لإعادة وحدة عام 58، وكان قد توضحت هذه الاتجاهات أثناء مؤتمر الحركة عام 1964 الذي عقد في لبنان، لتستفحل بعدها عقب نكسة الجيوش العربية عام 67، مما ساعد ذلك فيما بعد على انهيار الرابط التنظيمي القومي، لتنكفئ اهتمامات قياداتها وشبابها بالعمل على القضية الفلسطينية القضية القومية الأساس كالجبهة الشعبية وغيرها.
وكان تنظيم الحركة قد أوجدته بداية ظروف /فشل القيادات القطرية، وتردّي حالة الشعب/ في الخمسينات من القرن الماضي، وذلك لتجاوز حالة التبعية والتخلف والعمل من اجل التقدم من منظور قومي كفاحي، لم يتحلق بداية حول زعيم أو مفكر أو قائد ملهم، لكن شبابه كانوا يسترشدون بخبرة أصحاب النضال ممن سبقوا وبأفكار مجتهدين عُرفوا بتنورهم وبموضوعية البحث لديهم: منهم - قسطنطين زريق والحصري- وغيرهم، وقاده إلى العمل عوضا عن هؤلاء القادة الاستعراضيين المسئولين بنظره حينها عن الفشل العربي: حماسة الشباب وآمالهم المستقبلية للخلاص بعد الإحباط وسنين القحط المؤلمة، وقد خلُصَت تصوراتهم: إلى ضرورة العمل القومي وفق رؤية متجددة تعمل لها بنية تنظيمية نوعية، اتخذت السرية زمنها أسلوبا لنشاطها لضمان سلامة شبابها وحرية حركتهم أثناء تنفيذ مهامهم النضالية المختلفة /عبر خلايا داخل المجتمع/ لخدمة توجهها نحو الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية وتحرير الشعوب العربية، وكانت الحركة تعتبر بان المدخل إلى هذه الأهداف تحرير فلسطين المحتلة وعودة اللاجئين.
2- ولكونها قد أعلنت: عقب نشوء منظمات سياسية متنوعة حديثة زمنها /أممية وقومية وقطرية/ على الساحة العربية، فقد سمح لها ذلك بقراءة ودراسة أفكار وعقائد هذه المنظمات وطرق عملها، ومن موقف سلبي بُني اتجاهها، أملته طموحات واندفاع شبابها باعتبارها كانت مشاركة في الفشل لعربي، رأت الحركة أن تحقيق الطموحات يقضي بضرورة تجاوزها، وكان لبنيتها الثقافية وتكوينها والنتائج التي ترتبت عن ٳنكسار المجتمع المديني التقليدي بفعل المتغيرات: عوامل لأن يكون نشطائها ومؤيديها في غالبيتهم من أبناء العائلات المدينية المُحبَطة، أو من شباب الأطراف المتعلم، الذين لهم صلات مدينية، وهؤلاء قد نقلوا إليها بدورهم ما كانوا يحملون من عادات وفضائل وقيم مجتمعية مستقرة كانت قد تأسست على علاقات مجتمعية اقتصادية سابقة، كما كانوا الجسم الحَيوي للنشاط السياسي على اختلافه..وأيضا ورثة متميزون للدعوات السياسية والأحزاب التي عملت في مجالات نهضة العرب طيلة عقود سابقة ومنها عصبة العمل القومي كما أوضح الأستاذ هاني بن محمود الهندي في كتابه عن الحركة، ويعتبر هذا الكاتب المناضل إلى جانب الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد أحد مؤسسي كتائب الفداء العربي، وحركة القوميين العرب !؟
3- وكان لطابعها السري، الذي اقتضاه بطش الحكومات المتعاقبة آنذاك، / وأيضا لطريقة انتقاء المنتسبين إليها من صفوة الشباب الناشط في المجال السياسي الاجتماعي العربي/، ومن ثم أساليب تدريبهم على العمل النضالي، وتقويم ومراقبة صدقية سلوكهم، بهدف إعدادهم ليكونوا جديرين بحمل أعباء الدور الريادي الطوعي المنتظر منهم للخدمة العامة القومية /كواجب لا ينتظر ثوابا/: الأثر البالغ بالتحول النوعي الذي طرأ على مجمل طرق العمل السياسي العربي/مما أكسب هذا شبابها مسحة طهرانية، وعِفة/، ألزمتهم التشدد بضوابط الأخلاقيات.؟ مما انعكس هذا الوضع على سلوك الحركة، وجعلها حالة سياسية عربية متميزة، يَصعُب عليها، أو على أفرادها التنازل عن كل ما هو متعلق بالحقوق القومية، أو بمصالح المجتمع وتقدمه، تصَعّد هذا إلى ترَفع، منحَ الكثير من أعضائها صفة المرجعية والمراقبية في مناطقهم.
وربما كان هذا السلوك المبدئي، هو ما كان غالبا يدفع قيادة الحركة إلى الإحجام عن المشاركة السياسية الفعلية مع الأنظمة التي تعاقبت على العواصم العربية، وقد أكسبها هذا الموقف رؤية سياسية خاصة موضوعية متفردة اتجاه الأحداث العاصفة، حتى مع القيادة الناصرية عقب انفصال عام 1961، رغم إقرارها بالزعامة الفريدة للرئيس جمال عبد الناصر، وتعاون الحركة واتفاقها مع هذه الزعامة بالرؤية والأهداف، مما مكنها هذا من استيعاب جدلية المتغيرات الفكرية والسياسية الطارئة على المنطقة واتخاذ المواقف الصائبة اتجاهها.
و لكن بسبب طبيعة تسلسل تنظيمها السرّي الهرمي من القمة إلى القاعدة، وإتباع نظام المركزية المرنة بين القيادة القومية والأقاليم والمناطق، واعتماد بنية التنظيم على سلاسل الخلايا العنقودية والأسماء الحركية، وطبيعة الانشداد إلى الصِيغ العملاتية في المواجهة، وانشغاله والناشطين فيه بملاحقة ميدانية للأحداث المتتابعة، وحرص التنظيم على الإعداد القومي بالتثقيف والمهام النضالية اليومية بالإضافة إلى طبيعته السرية:
فان هذه العوامل قد جَعلت من المتعذر أن تسنح الفرصة لأفراده في معرفة بعضهم البعض خارج كل خلية، أو معرفة المسؤولين عنهم، الذين كانوا بالحقيقة ضباط ارتباط بين الخلايا والقيادة تغلب عليهم الصفة التنفيذية، علما بأن بعضا منهم كان يُستقدَم من الأقطار العربية.
واتساقا مع ما سبق فلربما كان لتركيبته التنظيمية هذه بما أنتجت من مناهج في السلوك والممارسة، كانت من الأسباب التي أدت إلى غياب الوحدة الفكرية وأحيانا حتى التنظيمية، وذلك لتعثر نقل مفاهيم القيادة الثقافية والحوار حولها وتبادلها، وأيضا تعثر نقل توجيهاتها التكتيكية السياسية، وهذا ما أفسح المجال لكل عضو من مسئولي المراتب التنظيمية بحسب كفاءته، لأن يكون له تثقيفه الخاص به، يمليه على تسلسل القواعد التابعة له، وبالقابل اجتهاده المفتوح على كل العقائد والأفكار في خدمة المفهوم القومي.
· وهذا ما قاد في حقيقة الأمر إلى رؤى سياسية متعددة وتنظيمات وقيادات، ضمن التنظيم الواحد، توجّهها في قِمّة الهرم مجموعة قيادية موثوقة لكنها بعيدة، لا القرار ببيدها ولا التنظيم، تخاف من انشقاق التنظيم ومن اختراقه ومن سريته، كما أفضى هذا الوضع بدوره إلى أن تبقى طروحات القيادة الفكرية المقدمة بالتسلسل إلى القواعد في ٳطار الاستئناس والنقاش، لكن دون التزام "حول مفاهيم الوحدة والاشتراكية والتحرر".
وقد تجدر الملاحظة هنا: بأنه على الرغم من أن مراتب الحركة التنظيمية كان يسود اجتماعاتها النظام الصارم، فٳن أجواءها، كانت مفتوحة لحرية النقاش وتبادل الآراء بين أعضائها ضمن صيغ ما تعارف عليه بالنقد والنقد الذاتي.
وبالمقابل فان ما سبق وذكر من عوامل سلبية كانت قد أضعفت المركز، قد أوجدت طرائق ٳيجابية في الٳجتهاد مُفعمة بالحركة الجدلية النشطة، جَعلت من كل عُضو في الحركة مسؤولا وأمينا على مبادئه وبؤرة كفاحية بحد ذاتها لها نصيب متجدد في معالجة نشر الفكر القومي الوحدوي والاجتهاد فيه، والتصدّي للقضايا الملحّة، التي يتعرض لها الوطن العربي على امتداده، مما ترتب على ذلك: تشكل ظاهرة سياسية ايجابية من نوع جديد، كان لها تأثيرها النوعي على الساحة السياسية العربية: من مواقع أفراد تنظيم الحركة في مفاصل المجتمع ومبادراتهم، ورؤيتهم المتمازجة مع المحيط الشعبي، وبما أن نشوء الحركة ونموها وتطورها على كافة الأصعدة، كان ثمرة نضال واجتهاد وتعب وتضحيات الناشطين من أعضائها، فقد اصبح للكل فيها نصيب، وهي كالحياة يسقط على طريقها البعض منهم، وينحرف آخرون، وتتجدد بمفاهيم ونشاط البعض الآخر !؟
· تبعا لذلك لم يكن معترفا /باتفاق ضمني/ ساد بين أعضائها، لأي من ناشطيها أنّى كانت تراتبيته: وخاصة - بعد تحلل وغياب الرابط التنظيمي القومي /الشبه العسكري/ للحركة بفعل الاضطهاد والملاحقات، وخاصة بعد صُدور القرار العربي عام 67 عقب قمة الخرطوم القاضي بتحجيم العمل القومي- وتحولها بالتالي إلى مقدس بحق مصادرة قرارها، استمرارها أو إنهائها، الإعلان عنها أو التحدث بٳسمها، أو تحوير مبادئها القومية والانحراف بمسارها، وهذا ما أكسب غيابها وبالمقابل حضور نشاطها، الذي بقي مستمرا عبر أعضائها ومواقفهم إطاراً غامضا، أربك المراقبين السياسيين والمحللين ومنعهم عن معرفة طبيعتها وآلية عملها وحقيقة تواجدها، وجَعل كلّ ما عُرف أو نشِر عنها لا يتطابق مع واقعها، ومصادره إما الاجتهاد التخميني أو ما نقل عن الدوائر الأمنية ليس غير.
· وقد ظلت الآراء السياسية المتمايزة في موضوع الشان القومي العربي والموقف النضالي مدار بحث وحوار ونقاش بين ناشطيها ومريديها على مدى العقود اللاحقة، أوجد حالة ترابطية بينهم من نوع آخر، وعلاقات مستديمة نوعية، يسودها تقليد أسروي اجتماعي متعاضد، لا تندرج مفاهيمه بما تعارفت عليه الأطر التنظيمية لأحزاب المنطقة، أكان هذا بين من كانوا أعضاء في السلسة الواحدة من الخلايا وآخرين خارجها، أو حتى مع الأعضاء القادمين من الأقطار المختلفة، وأيضا رؤية متناغمة للأمور متوافقة، في انتظار الظروف الملائمة للإعلان عن تجدد حقيقي لها!! ؟؟
· ومنذ أوائل التسعينات وعقب حدوث الانعطاف الحاد في السياسة الدولية بعد انهيار دولة السوفيتات، وتبعا انكشاف الوضع العربي، فقد بدا واضحا تصاعد حدة الحملات التي تستهدف المنطقة وقضاياها القومية، بما يمكن أن يُعيدها إلى أجواء الاحتلالات كما حَدث في الحرب الأولى والى تكرار مسألة اغتصاب فلسطين في أقطار أخرى، وشيوع سياسة الأحلاف والانقسامات والمؤامرات، لذا ارتأى العديد من أعضائها بعد أن استشعروا ضعف الساحة العربية أمام تهديدات المواجهة الجديدة المرتقبة، وارتخاء مفاهيم من لم يزل ينشط على ساحتها من شخصيات وأحزاب مقابل هذه الأجواء العالمية العاصفة المتغيرة، بوجوب إعادة العمل القومي عبر حركة متجددة تتجنب السلبيات، تأخذ بمعطيات الأزمنة الحديثة، لذا تنادى البعض منهم عقب الغزو الأمريكي للعراق إلى إنشاء مكتب من مهامه إعادة ربط الأعضاء فيما بينهم، ومتابعة آرائهم واقتراحاتهم ومساهماتهم بما له صلة بدعم قضايا العرب ومقاومتهم.
· كما يمكن معرفة المزيد عن حركة القوميين العرب /بدايات التأسيس والتنظيم والنشاط/ بالاضطلاع على العديد من المؤلفات، التي صدرت وتناولت موضوعها، ولعل من أهمهما: كتاب الدكتور الشهيد باسل الكبيسي، الذي أعاد طبعه مكتب الارتباط في حركة القوميين العرب، وكتاب الأستاذ هاني محمود الهندي الموسوعي الموثق أحد مؤسسيها.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home