صراع جمهوريات العراق الجديد
صراع «جمهوريات العراق» الجديد حول الحدود
فاضل الربيعي
2008-05-26
لم يكن ينقص نموذج «العراق الجديد» الذي سهر الأميركيون عند مهده طوال السنوات الخمس المنصرمة - وهي سنوات شقاء وعذاب لا مثيل لها وقد يصعب تخيّلها، للسكان والجنود الغزاة و «الحكام» والقادة السياسيين على حدّ سواء- سوى نوع فريد من النزاعات حول الحدود، يمكن أو يجب أن تنشب بين المحافظات.
هذا ما حدث مؤخراً حين رفعت محافظة كربلاء «الشيعية» عقيرتها بالصراخ ضد «جارتها السنيّة» محافظة الأنبار، لأنها تمددّت حتى بلدة «النَخْيب»، فما كان من الأنبار إلا أن ردّت على الصراخ بصوت عال، مدّعية «الحق التاريخي المُغتصب»!.
وفي الواقع، تعود جذور هذا التنازع بين المحافظتين إلى سنوات نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حين أعادت حكومة رئيس الوزراء الراحل عبدالكريم قاسم تعريف «الألوية» (أي المحافظات) في إطار محاولتها إعادة النظر في التقسيم الإداري البريطاني. وكان العراقيون آنذاك يستعملون التعبير الإداري «لواء» بدلاً من «محافظة». في ذلك الوقت نشب خلاف إداري محض، خالٍ تماماً من أي ظلال مذهبية أو سياسية أو ثقافية، بين المحافظتين حول بلدة النخَيْب، لكنه سرعان ما انتهى بتسوية ودّية، بما أن الجميع يقطنون في وطن واحد. اليوم، تتفجرّ المشكلة من جديد، وتتخذ طابعاً «مذهبياً» صارخاً.
توقيت إثارة مشكلة البُليدة الصغيرة الشعثاء هو المثير للاهتمام. فهي انفجرت غداة إقرار قانون «انتخابات المحافظات غير المُنتظمة في إقليم»، وقبل أربعة أشهر تقريباً من تنفيذ القانون (شهر أكتوبر القادم)، بما يعني أنه سيظل خلافاً قابلاً للأخذ والرّد حتى وقت طويل، وقد يتحول إلى مشكلة سياسية-مذهبية على حدود «جمهوريتين» متوقعتين: جمهورية كربلاء وجمهورية الأنبار. بيد أن المثير للاهتمام أكثر من مسألة التوقيت هذه، أن الأميركيين أخذوا في الآونة الأخيرة يُكثرون من استخدام تعبيرات مثل: الأنباريون وشعب الأنبار، وشعب كربلاء. كما أن وسائل الإعلام في واشنطن تحرص على ترسيخ المصطلحات الجديدة. فما هي دلالة نشوب نزاع بين محافظتين عراقيتين «شيعية وسنية» في هذا الوقت بالذات؟
إذا ما وضعنا هذا الخلاف في إطاره الحقيقي، فإن خطورته ستظل محدودة، وربما لا قيمة لها على صعيد تقرير السياسات العامة في البلاد، لأنه خلاف إداري تقليدي وربما فلكلوري. أما إذا وضعناه في سياق المشكلات الطائفية المحتدمة، فإنه سوف يتخذ عاجلاً أم آجلاً صبغة مذهبية وسياسية عويصة.
وفي هذا النطاق، يروي التاريخ الشعبي العراقي رواية طريفة عن نزاع فلكلوري نشب ذات يوم بين بلدتي «عانة» و «راوة» غرب العراق حول مياه النهر. ويبدو أن سكان البلدتين وجدوا حلاً طريفاً: أن يقسموا النهر بواسطة حبل يفصل «وهمياً» بين المياه الجارية في أراضي البلدتين. وتقول رواية شعبية يرويها السكان عن أنفسهم وجيرانهم، كيف أن أهالي راوة كانوا يخرجون ليلاً بقضّهم وقضيضهم وهم يحملون الجرار والأواني ليغرفوا من حصة العانيين، وليضيفوها إلى حصتهم، بينما يخرج العانيون في اليوم التالي ليفعلوا الأمر ذاته، بينما يواصل النهر جريانه غير عابئ بهذه اللعبة الساخرة بين المتنازعين. بيد أن عالم السياسة قد لا يعرف هذا النوع من الطرائف التي يحكيها المتنازعون، وهو بخلاف عالم التاريخ الشعبي قد لا يتقبّل هذا النمط من المزاح المتبادل، ذلك أن صراع الإرادات السياسية حول المياه والحدود والثروات والسلطة بين العراقيين بات اليوم قانوناً صارماً.
وهذا هو مغزى تشريع قانون «المحافظات غير المُنتظمة في إقليم»، وحرص الأميركيين على الإسراع في تطبيقه قبيل موعد الانسحاب المتوقع. وللمرء أن يتخيّل كيف ستعالج المحافظتان هذه المشكلة حين تصبحان، كل من جانبها، ضمن «إقليم» مذهبي شيعي وسني! ومن غير أدنى شك، فإن مشكلة «فلكلورية» من هذا النوع يمكن أن تصبح، بين ليلة وضحاها، مادة ُمفجرّة لنزاعات مماثلة حول الحدود بين محافظات الأقاليم، وربما بين محافظات الإقليم الواحد.
ليس دون معنى أبداً أن الأميركيين يسارعون مع كل معركة «ضد الإرهابيين» أو «المسلحين» أو «الخارجين على القانون» في الجنوب كما في غرب العراق كما في وسطه وصولاً إلى العاصمة بغداد، إلى نصب حواجز إسمنتية عملاقة بين الأحياء وفي الشوارع بحجة «منع إطلاق الصواريخ»، ثم سرعان ما تصبح هذه الحواجز جدراناً عازلة كما هو الحال في الأعظمية والشعلة والغزالية والصدر ومئات القرى والبلدات. وفقط تذكّروا أن الإسرائيليين أقاموا الجدار العازل في الضفة الغربية بحجة «منع إطلاق الصواريخ»؟.
أما في العراق الجديد المؤهل لأن يصبح «عراق الجمهوريات» بسهولة، فليس من قبيل التشاؤم أن يُقال إنه يتجه إلى نمط جديد من الصراعات حول الحدود بين جمهورياته. هذه الجمهوريات التي لن تفصل بينها حواجز جمركية أو «أمنية» وحسب، بل سوف تفصل بينها جدران عملاقة من النوع الذي يُبنى اليوم على حدود العراق مع السعودية، وبين مصر وغزة وهلمّ جرا.
وسقى الله أيام صراع الراويين والعانيين حول مياه النهر. لقد كانوا يتنازعون ويضحكون ويقولون لبعضهم: ما «أصغر عقلنا».. نتصارع حول «جرة ماء» أو «قطعة أرض» ونحن أبناء وطن كبير!
كاتب عراقي
لم يكن ينقص نموذج «العراق الجديد» الذي سهر الأميركيون عند مهده طوال السنوات الخمس المنصرمة - وهي سنوات شقاء وعذاب لا مثيل لها وقد يصعب تخيّلها، للسكان والجنود الغزاة و «الحكام» والقادة السياسيين على حدّ سواء- سوى نوع فريد من النزاعات حول الحدود، يمكن أو يجب أن تنشب بين المحافظات.
هذا ما حدث مؤخراً حين رفعت محافظة كربلاء «الشيعية» عقيرتها بالصراخ ضد «جارتها السنيّة» محافظة الأنبار، لأنها تمددّت حتى بلدة «النَخْيب»، فما كان من الأنبار إلا أن ردّت على الصراخ بصوت عال، مدّعية «الحق التاريخي المُغتصب»!.
وفي الواقع، تعود جذور هذا التنازع بين المحافظتين إلى سنوات نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، حين أعادت حكومة رئيس الوزراء الراحل عبدالكريم قاسم تعريف «الألوية» (أي المحافظات) في إطار محاولتها إعادة النظر في التقسيم الإداري البريطاني. وكان العراقيون آنذاك يستعملون التعبير الإداري «لواء» بدلاً من «محافظة». في ذلك الوقت نشب خلاف إداري محض، خالٍ تماماً من أي ظلال مذهبية أو سياسية أو ثقافية، بين المحافظتين حول بلدة النخَيْب، لكنه سرعان ما انتهى بتسوية ودّية، بما أن الجميع يقطنون في وطن واحد. اليوم، تتفجرّ المشكلة من جديد، وتتخذ طابعاً «مذهبياً» صارخاً.
توقيت إثارة مشكلة البُليدة الصغيرة الشعثاء هو المثير للاهتمام. فهي انفجرت غداة إقرار قانون «انتخابات المحافظات غير المُنتظمة في إقليم»، وقبل أربعة أشهر تقريباً من تنفيذ القانون (شهر أكتوبر القادم)، بما يعني أنه سيظل خلافاً قابلاً للأخذ والرّد حتى وقت طويل، وقد يتحول إلى مشكلة سياسية-مذهبية على حدود «جمهوريتين» متوقعتين: جمهورية كربلاء وجمهورية الأنبار. بيد أن المثير للاهتمام أكثر من مسألة التوقيت هذه، أن الأميركيين أخذوا في الآونة الأخيرة يُكثرون من استخدام تعبيرات مثل: الأنباريون وشعب الأنبار، وشعب كربلاء. كما أن وسائل الإعلام في واشنطن تحرص على ترسيخ المصطلحات الجديدة. فما هي دلالة نشوب نزاع بين محافظتين عراقيتين «شيعية وسنية» في هذا الوقت بالذات؟
إذا ما وضعنا هذا الخلاف في إطاره الحقيقي، فإن خطورته ستظل محدودة، وربما لا قيمة لها على صعيد تقرير السياسات العامة في البلاد، لأنه خلاف إداري تقليدي وربما فلكلوري. أما إذا وضعناه في سياق المشكلات الطائفية المحتدمة، فإنه سوف يتخذ عاجلاً أم آجلاً صبغة مذهبية وسياسية عويصة.
وفي هذا النطاق، يروي التاريخ الشعبي العراقي رواية طريفة عن نزاع فلكلوري نشب ذات يوم بين بلدتي «عانة» و «راوة» غرب العراق حول مياه النهر. ويبدو أن سكان البلدتين وجدوا حلاً طريفاً: أن يقسموا النهر بواسطة حبل يفصل «وهمياً» بين المياه الجارية في أراضي البلدتين. وتقول رواية شعبية يرويها السكان عن أنفسهم وجيرانهم، كيف أن أهالي راوة كانوا يخرجون ليلاً بقضّهم وقضيضهم وهم يحملون الجرار والأواني ليغرفوا من حصة العانيين، وليضيفوها إلى حصتهم، بينما يخرج العانيون في اليوم التالي ليفعلوا الأمر ذاته، بينما يواصل النهر جريانه غير عابئ بهذه اللعبة الساخرة بين المتنازعين. بيد أن عالم السياسة قد لا يعرف هذا النوع من الطرائف التي يحكيها المتنازعون، وهو بخلاف عالم التاريخ الشعبي قد لا يتقبّل هذا النمط من المزاح المتبادل، ذلك أن صراع الإرادات السياسية حول المياه والحدود والثروات والسلطة بين العراقيين بات اليوم قانوناً صارماً.
وهذا هو مغزى تشريع قانون «المحافظات غير المُنتظمة في إقليم»، وحرص الأميركيين على الإسراع في تطبيقه قبيل موعد الانسحاب المتوقع. وللمرء أن يتخيّل كيف ستعالج المحافظتان هذه المشكلة حين تصبحان، كل من جانبها، ضمن «إقليم» مذهبي شيعي وسني! ومن غير أدنى شك، فإن مشكلة «فلكلورية» من هذا النوع يمكن أن تصبح، بين ليلة وضحاها، مادة ُمفجرّة لنزاعات مماثلة حول الحدود بين محافظات الأقاليم، وربما بين محافظات الإقليم الواحد.
ليس دون معنى أبداً أن الأميركيين يسارعون مع كل معركة «ضد الإرهابيين» أو «المسلحين» أو «الخارجين على القانون» في الجنوب كما في غرب العراق كما في وسطه وصولاً إلى العاصمة بغداد، إلى نصب حواجز إسمنتية عملاقة بين الأحياء وفي الشوارع بحجة «منع إطلاق الصواريخ»، ثم سرعان ما تصبح هذه الحواجز جدراناً عازلة كما هو الحال في الأعظمية والشعلة والغزالية والصدر ومئات القرى والبلدات. وفقط تذكّروا أن الإسرائيليين أقاموا الجدار العازل في الضفة الغربية بحجة «منع إطلاق الصواريخ»؟.
أما في العراق الجديد المؤهل لأن يصبح «عراق الجمهوريات» بسهولة، فليس من قبيل التشاؤم أن يُقال إنه يتجه إلى نمط جديد من الصراعات حول الحدود بين جمهورياته. هذه الجمهوريات التي لن تفصل بينها حواجز جمركية أو «أمنية» وحسب، بل سوف تفصل بينها جدران عملاقة من النوع الذي يُبنى اليوم على حدود العراق مع السعودية، وبين مصر وغزة وهلمّ جرا.
وسقى الله أيام صراع الراويين والعانيين حول مياه النهر. لقد كانوا يتنازعون ويضحكون ويقولون لبعضهم: ما «أصغر عقلنا».. نتصارع حول «جرة ماء» أو «قطعة أرض» ونحن أبناء وطن كبير!
كاتب عراقي
Labels: صراع جمهوريات العراق الجديد
0 Comments:
Post a Comment
<< Home