حقيقة ما جرى في حلبجه العراقية (الملف الكامل-ألجـزأ ألثاني)ج2
ما لا يعرفه الناطقون بالعربية عن حقيقة ما جرى في حلبجه العراقية (الملف الكامل-ألجـزأ ألثاني)ج2
د. محمد العبيدي
2005-01-24
ما هي الحقيقة؟
نحن نعلم جيداً بإستخدام كل من العراق وإيران للأسلحة الكيمياوية ضد بعضهما البعض في الحرب الضروس التي إستمرت بينهما طوال ثمان سنوات والتي إنتهت في 20 آب/أغسطس عام 1988 حيث تم إعلان وقف إطلاق النار. فمعظم الهجمات العراقية المزعومة على الأكراد حدثت بينما كانت تلك الحرب مشتعلة، بالرغم من أن منظمة مراقبة حقوق الإنسان إدعت أن الهجمات إمتدت حتى شهر أيلول/سبتمبر. ولقد أقر العراق بإستخدامه غاز الخردل ضد الجيش الإيراني ولكنه أنكر الإستخدام المستمر والمتعمد للأسلحة الكيمياوية ضد المدنين.
ولكن ماذا حدث في حلبجه ؟
إن أهم أحداث قتل للمدنيين الأكراد من جراء إستخدام الأسلحة الكيمياوية قد وقعت في حلبجه التي هي مدينة عراقية تقع بالقرب من الحدود الإيرانية حيث قتل عدة مئات من الأشخاص إثر تعرضهم للغازات السامة في منتصف آذار/مارس 1988. ولقد علمنا أن إيران إكتسحت المدينة بما فيها من أعداد قليلة من أفراد القوات المسلحة العراقية؛ ولكن نشب الخلاف حول من هو المسؤول فعلياً عن الضحايا : إيران أم العراق ، وكم عدد القتلى؟ إن أفضل دليل كان ذلك التقرير الذي صدر عام 1990 عن معهد الدراسات الإستراتيجية بكلية الحرب العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد خلص التقرير إلى أن إيران وليس العراق هي التي إرتكبت جرائم حلبجه ! وأن ستيفن بلتير الذي كان واحداً من الذين أعدوا ذلك التقرير قد وصف النتائج التي توصل إليها فريق العمل لما حدث في العراق خلال الحرب العراقية - الإيرانية كما يلي:
"إن الغالبية العظمى للضحايا - كما رأى المقررون والمراقبون الآخرون الذين شهدوا على الأحداث – قد مُثل بهم وإرتكبت ضدهم فظائع وقتلوا بواسطة سلاح فتاك، ربما بواسطة غاز كلوريد السيانوجين أو هيدروجين السيانيد ولكن العراق لم يكن يستخدم تلك الأنواع من الأسلحة الكيمياوية من قبل بل كانت تنقصه القدرة على إنتاج تلك الأسلحة في حين أنها كانت في حوزة الإيرانيين، وهكذا يكون الإيرانيون هم قتلة الأكراد.
ذكر بلتير أن عدد القتلى كان بالمئات وليس بالآلاف كما زعمت منظمة مراقبة حقوق الإنسان والإدارة الأمريكية، وإلى يومنا هذا تتفق وكالة الاستخبارات المركزية مع هذا الرأي بينما يقر تقرير كلية الحرب بان العراق إستخدم غاز الخردل خلال الهجوم على حلبجه. كما ذكر التقرير أن ذلك الغاز يصيب المصاب بالضعف، ولكنه ليس فتاكاً، أما معدل الوفيات من جراء إستخدامه فيصل فقط إلى 2 بالمئة وبذلك لا يمكن أن يكون قد تسبب في مصرع آلاف القتلى وهذا عكس ما ذكرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان.
هل كانت هناك حقاً حملة للإبادة الجماعية؟
رفض بلتير أيضا الإدعاء بأن – بالرغم مما حدث في حلبجه – الرئيس صدام حسين قد تورط في شن حملة طوال أشهر عديدة من الإبادة الجماعية ضد الأكراد العراقيين وقتل فيها 50,000 أو 100,000 شخص أو أكثر. ووصف ذلك بأنه خدعة تفتقد إلى الوقائع، وجاء شرحه كالآتي:
يمثل هذا الموضوع معضلة لعدم وجود أي ضحايا للغازات السامة. أما الواقعة الوحيدة التي تثبت أن الغاز قد إستخدم فهي إفادات شهود عيان من الأكراد الذين هربوا إلى تركيا جمعها موظفي مجلس الشيوخ الأمريكي. ولقد أرينا تلك الإفادات لخبراء عسكريين ذكروا لنا أنها لا تحمل أي قيمة. أما الأعراض التي وصفها الأكراد فلا تتفق مع أي سلاح كيمياوي أو مجموعة من الأسلحة الكيمياوية. وذكر بلتير أيضا أن منظمات الإغاثة الدولية التي فحصت حالات اللاجئين الأكراد في تركيا قد فشلت في إكتشاف وجود أية غازات سامة.
هل قام العراق حقاً بإستعمال الغازات السامة ضد الأكراد في حلبجه وفيما سمي بعدئذ بجريمة "الإبادة الجماعية" ؟
نشرت صحيفة تورونتو ستار الكندية في 1/3/2003 مقالاً لكاتبها دون سيلار جاء فيه:
إن تغطية صحيفة تورونتو ستار الأولي لأحداث حلبجه كان هزيلاً جداً لأني لم أجد في تلك الفترة (فترة الهجوم على حلبجه) أية أخبار مستعجلة نقلتها الصحافة العالمية. فكل ما وجدته هو أنه بعد أربعة أيام من تلك العملية نقلت وكالة رويترز للأنباء من مقرها في قبرص قائلة أن الأكراد الذين يقاتلون جنباً إلى جنب مع الإيرانيين قد إحتلوا مدينة حلبجه والقرى المجاورة لها حيث "إتهم الإيرانيون العراقيون بإستعمال الأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد".
ويستمر دون سيلار قائلاً، "بعد يومين من ذلك التأريخ، بثت وكالة رويترز للأنباء خبراً مفاده أن إيران تدعي مقتل 5000 كردي بواسطة قنابل كيمياوية ألقيت عليهم بواسطة الطائرات الحربية العراقية. وقد عرض الإيرانيون صور الضحايا الأكراد لتأكيد إتهاماتهم للعراق، حيث قال أحد الأطباء الإيرانيين أن غاز الخردل وعامل آخر قد إستعملا مما يؤدي إلى ضرر بعيد المدى بالمصابين." وبعد أسبوعين نشرت صحيفة تورونتو ستار مرة أخرى خبراً مفاده أن وكالة رويترز تقول بأن الأمم المتحدة قد أرسلت شخصين لفحص المدنيين العراقيين والإيرانيين الذين كانوا ضحايا غاز الخردل وغاز الأعصاب، ولكن هذين الشخصين لم يعلنا من إستعمل، أو كيف إستعملت تلك الأسلحة. ذلك يوضح أن كلاً من إيران والعراق كانا يتهمان بعضهما البعض بإستعمال الغازات السامة. وفي أيلول/سبتمبر أشارت صحيفة تورونتو ستار أيضاً إلى شخص لم يسمى في الأمم المتحدة قائلاً بأن مجلس الأمن إختار إدانة إستعمال الغازات السامة في الحرب العراقية الإيرانية بدلاً من توجيه أصابع الإتهام على العراق الذي كان يعتقد في ذلك الوقت أن سيخسر الحرب مع إيران.
وفي مجلة "أكاذيب عصرنا الراهن" التي يخرجها إدوارد هيرمان والعديد من المهتمين بنشر الحقائق والوقائع، تساءلت المجلة عن السبب الذي تم فيه إهمال تقرير مركز الدراسات الستراتيجية لكلية الحرب الأمريكية عندما ظهر لأول مرة، وعند نشره تم إخفاءه في مكان منزوي من وسائل الإعلام التي تأتمر بأمر الإدارات الأمريكية.
هذا وقد إعترفت الأمم المتحدة بما حدث في حلبجه ولكنها لم تجد أي دليل على إتهام العراق بضرب الأكراد بالأسلحة الكيمياوية. وقد أرسلت الأمم المتحدة مجموعة طبية رأسها الطبيب الإسباني الكولونيل مانويل ديمينغويز كارمونا لتقصي الموضوع في حلبجه. كما وتظهر سجلات الأمم المتحدة والرسائل والتقارير أن كلاً من العراق وإيران قد إستعملا الغازات السامة ضد قوات بعضهما البعض، وأن المجموعة الطبية التي أرسلتها الأمم المتحدة قد وجدت أيضاً أن كلا الجانبين قد إستعملا الغازات في معركة حلبجه. وتبعاً لذلك فشل قرار من الأمم المتحدة ومجلس الأمن (شاهد قرار مجلس الأمن في هذا الكتاب) على تحميل العراق فقط مسؤولية ما حدث هناك. ولكن ذلك لم يكن التقرير الوحيد للأمم المتحدة، حيث أنها وثقت بدقة إستعمال الغازات السامة من قبل كلا البلدين، حيث هناك أسماء وتواريخ ومواقع وحتى أسماء أنواع الغازات التي إستعملت وحالة المصابين بها. وأن أي شخص بإمكانه قضاء بعض الوقت للتدقيق بالملفات على موقع الأمم المتحدة على الإنترنت سيجد كل ما يريد معرفته.
تحليل التقارير عما يسمى "الإبادة الجماعية"
كانت تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان تشكل العمود الفقري لموضوع الغازات السامة وإدعاءات الإبادة الجماعية، وأن تقريرها الرئيسي كان عن "الإبادة الجماعية في العراق"، إضافة إلى تقرير عنوانه "حملة الأنفال ضد الأكراد" لمنظمة أطباء لحقوق الإنسان وهي منظمة أطباء ملحقة بمنظمة مراقبة حقوق الإنسان وتتعاون معها ولكن تقريرها ليس على أساس من البراهين وإنما واهي بشكل كبير ويتكون من لقاءات مع 350 من الأكراد في كردستان في عامي 1992 و 1993 بعد أربع وخمس سنوات من وقوع الأحداث ونبش للقبور في ثلاث قرى وفحص وثائق حصل عليها المتمردون الأكراد من موظفي الحكومة العراقية الذين تم إعتقالهم.
إن البيئة السياسية التي تم في إطارها إجراء اللقاءات تتمثل بكونها أجريت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وهى بالطبع دولة تدعم بقوة حركة تمرد الأكراد وتتعاون مع ممثلي وزارة الخارجية الأمريكية ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وهذا ما يضعف من مصداقية كل ما تم ذكره عن اللاجئين. كان لدى الذين أجروا هذه اللقاءات الدوافع الكاملة لإرضاء منظمة مراقبة حقوق الإنسان التي كانت في وضع يتطلب منها مساعدة الأكراد ولم تجد للقيام بذلك سوى نشر تقارير عن تلك الجرائم الوحشية. وما لا يصدقه عقل هو تأكيد تلك المنظمة على وقوع عمليات إبادة جماعية بالرغم من الصعوبة الشديدة في العثور على دليل مادي. ومن خلال نبش ثلاث مقابر تم إخراج 26 جثة لرجال وفتيان تم إعدامهم. بالفعل كان هذا عملاُ وحشيا ولكن المنظمة تركت 99,974 جثة لم يتم التعرف على ظروف وفاتهم أو أين هي رفاتهم. كما أن هناك مقبرتان، وجد بهما جثث لعدة أفراد تم دفنهم على حدة وتوفوا لأسباب غير معروفة، الأمر الذي لم يقدم أي دليل يدعم المزاعم الخاصة بالإبادة الجماعية.
إن قول منظمة مراقبة حقوق الإنسان بأن حوالي 100,000 شخص (99,974) تم نقلهم إلى مناطق بعيدة وإعدامهم رمياً بالرصاص في مقابر جماعية، هذا القول ليس هناك ما يدعمه من أدلة. كما إدعت منظمة مراقبة حقوق الإنسان بأن القوات الإيرانية في حلبجه قد تمكنت من دفن 3000 ضحية تحت طبقة رقيقة من الرمال في 16 آذار/مارس في مقابر جماعية في مجمع عنب، وبعد أربع سنوات كانت الجثث لا تزال هناك وقد بدأت في تلويث المياه الجوفية.
كيف علموا بذلك ؟ إننا لا ندري، كما أنه لا توجد أية أدلة تثبت تلك الادعاءات.
وننتقل إلى سؤال المحلل السياسي الأقدم لوكالة الاستخبارات المركزية ستيفين بلتير حين قال، "إذا كان قد تم قتل 100,000 شخص فأين جثثهم ؟"
هذا ويقول بلتير عن جوست هيلترمان، الباحث الرئيسي في منظمة مراقبة حقوق الإنسان والذي كتب تقرير المنظمة عن أحداث حلبجه والأنفال، أنه غير ملم بأن الحكومة العراقية قد أمرت بتنظيف شريط حدودي مع إيران، وهذا يعني أن المواطنين الذين كانوا يسكنون في هذا الشريط الحدودي قد تم نقلهم إلى مناطق تبعد 50 ميلاً من الحدود العراقية الإيرانية، وأن بعضهم قد تم إسكانهم في شقق بمباني عالية. إن هذا يعني أن أولئك الذين تدعي منظمة مراقبة حقوق الإنسان أنهم قد قتلوا هم في الواقع من تم نقلهم إلى مناطق في العمق حيث تم إسكانهم في دور حديثة. ولو أن أحداً ما قرأ تقرير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لوجد أنه يقول بأن هناك أدلة عن مقتل "المئات" في حلبجه في آذار/مارس 1988 وأن العراقيين إستخدموا فقط غاز الخردل وغاز الأعصاب في تلك العملية العسكرية. ومن هنا يبدو أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تدعم بشكل كامل تقرير كلية الحرب الأمريكية الذي صدر في نيسان/أبريل عام 1990 حيث أن الأكراد الذين ماتوا في حلبجه كانوا قد قتلوا بواسطة غاز من مركبات السيانيد وليس بواسطة غاز الخردل أو غاز الأعصاب. إضافة لذلك فإن تقرير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لم يذكر على الإطلاق إستعمال العراقيين لأي أسلحة كيمياوية بعد آذار/مارس 1988 وذلك يدحض مرة أخرى ما قيل عن عملية الأنفال ومقتل الآلاف من الأكراد فيها في شهر آب/أغسطس عام 1988. كما أن جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي أيام بوش الأب قد قال للسيد طارق عزيز في إجتماعهما الشهير قبل حرب الخليج الأولى أنه لا يصدق أن العراق قد إستعمل مثل هذه الغازات ضد الأكراد وبذلك كان بيكر يشير إلى التقرير الذي نشره ستيفن بلتير الذي برأ العراق من إستعمال الغازات السامة والمذابح الجماعية.
ويضيف بلتير، أنه حسب الأدلة التي جمعناها تؤكد أن مجموعة جلال الطالباني قد ساعدوا الإيرانيين على التسلل إلى المدينة أثناء الليل، وفي الصباح خرج الإيرانيون على الجيش العراقي مما أدى بهم إلى الإنسحاب والخروج من المدينة، وهو ما حدى بالقائد العراقي لطلب دعم مدفعي بإستعمال قنابل تحتوي على غاز الخردل، الأمر الذي أجبر الإيرانيين على التقهقر خارج حلبجه وتمت إستعادة المدينة ثانية من قبل العراقيين. ونتيجة لهذا التقهقر الإيراني تم ضرب المدينة من قبلهم بنوع من الغازات التي تحتوي على أحد مركبات السانيد (أحد المركبات التي تدخل الدم). وهكذا كان، غاز خردل ثقيل من العراقيين و غاز من أحد مركبات السيانيد من الإيرانيين، والنتيجة كانت أن المدنيين في حلبجه قد وقعوا ضحايا وسط القتال بين المتحاربين. ويضيف بلتير، أن عدة مئات من المدنيين قد قتلوا بشكل فضيع أثناء هذا الهجوم والهجوم المضاد، ولكنهم لم يقتلوا لأنهم كانوا مستهدفين بشكل خاص كجزء من حملة تطهير عرقي قام بها الرئيس صدام حسين.
ولنعد الآن إلى التقرير أو الدراسة التي تدحض كل تخرصات ما حدث في حلبجه وما رافقها من أحداث في شمال العراق. ففي عام 1990 قام كل من ستيفن بلتير والأستاذ لايف روزنبيرغر والكولونيل الدكتور دوغلاس جونسن من معهد الدراسات الستراتيجية التابع لكلية الحرب للجيش الأمريكي بدراسة عنوانها "دروس من الحرب العراقية الإيرانية" تشتمل على معلومات من الملحقيات العسكرية الأمريكية في الخارج ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتحليلات وكالة إستخبارات الدفاع وتقارير من مواقع العمليات، إضافة إلى "إشارات إستخباراتية تشتمل على رسائل أرسلت بواسطة الراديو والهاتف من قبل الجيشين المتحاربين والتي تم إلتقاطها من قبل وكالة الأمن القومي. لقد كانت تلك الدراسة، حسبما صرح به بلتير، عبارة عن دليل – إنجيل – تم إصداره لجميع وحدات الجيش الأمريكي كدليل ستراتيجي وتكتيكي خلال حرب عاصفة الصحراء (حرب الخليج الأولى). ويضيف بلتير قائلاً حول الموضوع " لقد خلصت دراستنا إلى القول بأن أولئك الذين يدعون عكس ذلك عليهم أن يقدموا أدلة ملموسة ومقنعة، والتي لم يظهروها لحد الآن. وأضاف أيضاً أن الجيش الأمريكي قد درس بشكل عميق إفادات شهود عيان تم جمعها من لاجئين أكراد في إيران من قبل الصحفي البريطاني جوين روبرتس والتي تم عرضها على القناة الرابعة البريطانية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1988."
وفي كتابهما المعنون "القوة العراقية والأمن الأمريكي في الشرق الأوسط" كتب ستيفن بلتير و دوغلاس جونسن ما يلي:
في الحقيقة، هناك مسألتان مهمتان وجديرتان بالإستقصاء. أولهما هي الهجوم المزعوم الذي حدث على حلبجه، حيث أن جميع الدلائل تشير وتتفق على أن جميع أفواه وأطراف القتلى كانت زرقاء، وهذا يدل بما لا شك فيه أن غازاً من مركبات السيانيد (أحد المركبات التي تدخل الدم) كان قد إستعمل. إن العراق لم يستعمل على الإطلاق هذا النوع من الغازات طيلة حربه مع إيران، في حين أن إيران كانت قد إستعملته. وتقول وزارة الخارجية الأمريكية أنه في وقت حدوث الهجوم على حلبجه كانت كل من إيران والعراق قد إستعملا الغاز في تلك المنطقة، لهذا نحن نؤكد بأن الإيرانيين هم من قتلوا الأكراد في حلبجه.
والمسألة الثانية هي الهجوم الثاني المزعوم الذي يقال أن العراقيين قد قاموا به ضد الأكراد والذي كان قد حدث في العمادية (في أقصى شمال العراق) بعد أن إنتهت الحرب. إن هذه القضية هي مشكلة كبيرة بحد ذاتها حيث لم يتم ولحد الآن أن شاهد أحد ما هذه الجثث. إن الدليل الوحيد على هذه الحادثة هو إفادات شهود عيان من اللاجئين الأكراد الذين وصلوا إلى تركيا والتي تم جمعها من قبل موظفين في مجلس الشيوخ الأمريكي. لقد عرضنا تلك الإفادات على أخصائيين في الجيش والذين قالوا لنا أن تلك الشهادات لا قيمة لها على الإطلاق إذ أن الأعراض التي وصفها هؤلاء الأكراد لا تتطابق مع أي من الأعراض التي قد تسببها أي مادة كيمياوية أو خليط من مواد كيمياوية.
إن عدم وجود ضحايا قتلوا بالغازات في تلك الواقعة المزعومة، والأخذ بنظر الإعتبار عدم صدقية إفادات الشهود فإننا غير مستعدين للإعتراف بأن مثل تلك الحادثة قد وقعت فعلاً. وبنفس الوقت، فقد أشرنا من خلال الدراسة لوقائع قام العراقيون فيها بإستعمال الغازات ضد وحدات من الجيش الإيراني، إذ أنه لا يوجد هناك من شك بأنها قد حدثت. والواقع أن العراقيين يعتقدون بأن عملهم ذلك له العديد من الأسباب ويمكن تبرير إستعماله في حالات تكتيكية وفي ظروف خاصة فقط ولكنهم نفوا نفياً قاطعاً أنهم إستعملوا تلك الغازات كأسلحة دمار شامل ضد المدنيين الأكراد. وما خلصت إليه دراستنا هو أن من يدعي عكس ما توصلنا إليه من نتائج عليه أن يقدم أدلة مقنعة، والتي لم تظهر لحد الآن.
وبالطبع قد يكون بلتير على خطأ، ولكن المهم أنه لحد الآن لا توجد إجابة على سؤاله هذا الذي طرحه في تقريره عام 1990 ألا وهو أين هي الجثث؟ إن كان هناك 100,000 كردي قتلوا بالغازات في أرض مفتوحة وفي بضعة أيام فإن تلك الجثث كان يجب أن تكون قد إكتشفت بأجمعها خصوصاً الآن بعد إحتلال العراق. ولكن المهم التذكير هنا هو أنه بعد أن إنتصر العراق في حربه مع إيران، كان ذلك مفاجأة لمؤيدي إسرائيل في الإدارة الأمريكية واللوبي الصهيوني الذين رأوا أن العراق بقيادة الرئيس صدام حسين قد أصبح قوة يحسب لها حساب في المنطقة ولهذا قرروا أنه لم يعد بعد الآن حليفاً لهم ولكنه أصبح عدواً لدوداً ومهدداً لوجود إسرائيل ولذا فمن المهم إنهاءه. وعن هذا الشأن أيضاً قال بلتير لطلبة إحدى الكليات الأمريكية، "لم تتوقع الولايات المتحدة أن ينتصر العراق في تلك الحرب التي أذهلت نتائجها القادة الأمريكان."
وفي مايس/مايو 1990 نشرت الواشنطن بوست مقالاً للكاتب باترك تايلر ذكر فيه "أعادت وزارة الدفاع الأمريكية تصوير الأحداث الختامية للحرب العراقية الإيرانية حيث خلص المحللون إلى أدلة مخابراتية ثابتة وقطعية بأن ما حدث في حلبجه هو أحد أسوأ المجازر للمدنيين في تلك الحرب والتي كان سببها القصف المستمر بالأسلحة الكيمياوية من كلا الطرفين المتحاربين".كما خلص ذلك التقرير إلى القول أن المحللين يشككون بصحة إدعاءات منظمات حقوق الإنسان وبعض الجماعات الكردية عن مسؤولية العراقيين فيما ما حدث .
وفي تشرين الأول/أكتوبر من عام 2002 أصدرت وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية تقريراً آخر عن إستعمال العراق للغازات السامة أثناء حربه مع إيران مؤكدة أن آخر مرة إستعمل العراقيون فيها الغازات السامة كان في معركة حلبجه مع الإيرانيين حيث قتل "المئات" من المدنيين الأكراد، وأن العراق قد إستعمل في هذه المعركة غاز الخردل. وقد نفى التقرير إختفاء 100,000 كردي في نهاية ذلك العام. أما بخصوص تخرصات هلترمان من أن العراقيين قد إستعملوا الطيران لإلقاء الغازات السامة على الأكراد في حلبجه، فإن جود وانسكي قد تلقى معلومات من الكولونيل باترك لانغ Patrick Lang، الذي كان يعمل مسؤولاً للمخابرات العسكرية المختصة بالشرق الأوسط في وكالة مخابرات الدفاع في تلك الأعوام بأنه لا يوجد هناك أي دليل على أن العراقيين قد إستعملوا الطيران أثناء ذلك الهجوم، كما أكد أن كلا الجانبين قد إستخدما الغازات السامة وكليهما إستعملا المدفعية لإطلاق هذه الغازات. إضافة لذلك فإن إيران دائماً ما ساندت موجاتها البشرية في الحرب بإستخدامها لنوع خفيف من غاز الخردل الذي يسمح لتلك القوات بمفاجأة العراقيين لغرض السيطرة على مواقعهم بمجرد ما يتركونها، ونتيجة لذلك فقد تعلم العراقيون تطوير نوع أثقل من غاز الخردل الذي صمم لتعطيل تقدم قوات العدو. والشئ غير المسرور للمتحاملين على العراق في الإدارة الأمريكية هو أن غاز الخردل الذي إستعمل في حلبجه كان أكثره من النوع الخفيف الذي إستخدمه الإيرانيون.
أسباب أخرى للتشكيك في دقة تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان
1. ثمة آخرون حققوا في الموقف ولم يصلوا إلى نتائج مماثلة عدا جماعتين أمريكيتين فقط هما منظمة مراقبة حقوق الإنسان والأطباء التابعون لها وهؤلاء يعملون مع أعداء الرئيس صدام حسين الذين هم المعارضة الكردية والحكومة الأمريكية.
2. بالرغم من أن تقرير كلية الحرب الذي يقع في تسعين صفحة هو في متناول عامة الشعب طوال ثلاث سنوات عندما نشرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان تقريرها المعنون "الإبادة الجماعية في العراق" عام 1993 إلا أن التقييم الأول الذي نشر في عام 1991 لم يذكر عنه شيئاً. ولم يهتم أحد بملاحظات ميلتون فيورست المتزامنة والمباشرة. كما لا يوجد تقييم جاد لأي تساؤل عن الأدلة المضادة للإبادة الجماعية.
3. إن التقارير والكيفية التي تناولتها بها منظمة مراقبة حقوق الإنسان تظهر تحيزاً سياسياً مقصوداً لصالح الأكراد في العراق. يصور تقرير "الإبادة الجماعية في العراق" الحكومة العراقية وسيادة الدولة العراقية التي يعترف بها العالم "كإدارة دمى". بينما عملت منظمة مراقبة حقوق الإنسان بقرب مع الاتحاد الوطني الكردستاني (مجموعة الطالباني).
4. وبكل بساطة لا يوجد دليل على إستخدام أي عنصر من المواد الكيمياوية كالغازات المسيلة للدموع وهي العناصر المحرم إستخدامها قانوناً أو حتى عنصر غير كيمياوي يؤدي إلى حدوث أعراض من التي تم وصفها في تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان. أما أفظع ما ذكره التقرير فهو أن الإصابات التي تم نقل وصفها عن الأكراد كانت تتماشى مع تعرضهم لغاز الخردل. وهذا ما يثبت الفشل التام في إدراك أية أسباب أخرى ممكنة. علاوة على ذلك، نحن نعلم وعلى حد قول ستيفن بلتير بأن غاز الخردل لا يقتل أعداداً كبيرة من الأشخاص. وفي كل الأحوال كانت إيران أيضا قد إستخدمت غاز الخردل. وكمثل للإستنتاجات التي تم التوصل إليها بدون دليل مقنع – أو أي دليل مادي – هو ما يخص سبب أوردته منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تقريرها "تدمير كوريم خلال حملة الأنفال". هذا التقرير يشرح عملية نبش القبور وإخراج جثتين زعموا أنهم قد قتلوا خلال هجوم بالأسلحة الكيمياوية في القرية الكردية برجيني. ومع ذلك تذكر المنظمة أن الفحص الهيكلي لعظام الجثتين إقتصر على تحديد ما إذا كانت هناك إصابة أو آثار تحيط بظروف الوفاة يمكن أن تتناقض مع ما قاله أهل القرية بأن المتوفيان قد تعرضا لأسلحة كيمياوية. ولم توجد أية شواهد تدل على وفاتهما بسبب الأسلحة الكيمياوية، وفي الواقع لا توجد هناك أي علامة عن كيفية وفاة هذين الشخصين. ومن المحال إستخدام هذا كدليل قاطع على شن هجوم بالأسلحة الكيمياوية.
5. تظهر قرارات منظمة مراقبة حقوق الإنسان - المبالغة في إطلاق المزاعم- الميل للتأكيد على أن هناك أعداداً أكبر من الضحايا. وحدث تغيير جذري في طبيعة هذا الإدعاء في تقرير عام 1993 تحت عنوان "الإبادة الجماعية في العراق" إدعت فيه المنظمة أن عدد الضحايا كان على الأقل 50,000 وقد يصل إلى 100,000 شخص. وفي عام 2003 إرتفع العدد فجأة إلى 100,000 شخص بشكل مؤكد. كما وحدث تغير في وصف الإصابة لجنس دون الآخر. مثلاً في عام 1993 كان الكثير من الضحايا نساء وأطفال، أما في عام 2003 كان كل المائة ألف ضحية من الرجال والفتيان. وربما في عام 2003 أيضا تم نقل الرجال والفتيان إلى مناطق بعيدة وتم قتلهم رمياً بالرصاص، ثم نقلت جثثهم إلى مقابر جماعية. ولم تذكر لنا منظمة مراقبة حقوق الإنسان إطلاقاً لماذا لم تكن هناك جثث، سواء كانت لذكور أم إناث لإثبات تلك المزاعم.
6. في عدة مواقف، دعت تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان بوضوح إلى أنه كانت هناك محرقة تماثل محرقة النازيين، وأن النظام العراقي أخفى أفعاله وسط إستخدام العبارات الرقيقة وكان هناك توازي بين المحرقة والحملة المزعومة ضد الأكراد. إن اللجوء إلى هذا البئر العميق من المشاعر ضروري فقط عندما تكون الحقائق غير كافية للإقناع.
إعتمدت منظمة مراقبة حقوق الإنسان على وثائق الحكومة العراقية التي إستولى عليها المتمردون الأكراد. وتم حفظ هذه الوثائق داخل مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد. إن هذا المشروع - الذي يمثل تعاون المنظمة مع وزارة الخارجية الأمريكية- قد وضع عدداً من الوثائق في موقعه على الإنترنت، بعد إضافة عبارات مستفزة لتلك الوثائق مثل "الإعدام البيروقراطي" و "المغتصب المحترف" وذكروا في ذلك الموقع الإليكتروني بعض الادعاءات الوحشية وأهمية بعضها. ولكن ماذا لو تأملنا الوثيقة المعنونة : "الإعتراف بإستخدام السلاح الكيمياوي" والتي يذكر فيها ما يلي:
من أمن شقلاوة، العدد 2034، التأريخ 10/5/1987
علمنا ما يلي:
1. قام العدو الإيراني بتزويد عائلات المخربين في القرى والأرياف الحدودية بعقاقير طبية وخاصة أدوية ضد المواد الكيمياوية ويتدربون على زرق الإبر التي تستعمل لهذا الغرض وكذلك التدريب على كيفية إرتداء أقنعة الوقاية في الرأس.
2. يوجد هناك حوالي مائة مخرب من مختلف زمر التخريب في منطقة "ورته" التابعة لقضاء "الصِدّيق" على طريق "خانقاوه" وذلك لصدّ القوة التي ترافق ترحيل القرى، علماً بأن أغلب العوائل في تلك المنطقة قد غادروها إلى إيران.
يرجى تدقيق صحة المعلومات وإعلامنا خلال 24 ساعة لطفاً.
توقيع: رائد الأمن، مدير أمن شقلاوه."
وقد تم تفسير هذه الوثيقة كما يلي: "إن الوثيقة هامة للغاية لأنها تفسد أي ادعاء من قبل حكومة الرئيس صدام حسين بأنها لم تستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد الشعب الكردي. إن التأريخ ومصدر ونص الوثيقة فكانوا إثباتاً لا يقبل الشك عن حملة الإبادة الجماعية التي يقوم بها النظام العراقي والمعروفة "بالأنفال" ضد الأكراد".
إن موضوع إستخدام العراق للأسلحة الكيمياوية كجزء من حملة الأنفال قد إنتشر للغاية، وكان لزاماً على الإيرانيين تزويد الأكراد بمواد تحميهم وتقيهم من المواد الكيمياوية.
بينما كان ذلك هو التفسير الممكن، يمكن أن تكون الوثيقة إما: (1) تقريراً للواقع أو (2) تحذيراً من أن الإيرانيين إستخدموا أيضا تلك الغازات (مواد مميتة أو غاز الخردل) وقد أنتجوا مواد طبية وملابس واقية لكل من يساندهم، ويمكن أن يعدوا أنفسهم لشن هجوم كيماوي. إننا لا ندري حقاً ومن السخف أن نقدس هذه الوثيقة التافهة على أنها "الموافقة على إستخدام الأسلحة الكيمياوية من قبل العراق".
إدعاءات عن إستخدام غازات الأعصاب
للعودة الى الجزأ الاول
يتبع ألجــزأ الثـالـث، إنشاء ألله
للعودة الى موقع: سيبقى العراق الى ألأبــــد
0 Comments:
Post a Comment
<< Home