من يغيّرالسلوك الامريكي
من يغيّرالسلوك الامريكي
معن بشور
في خريف 1995 دعيت للمشاركة في ندوة عن "الديمقراطية في العالم العربي" نظمتها مؤسسة امريكية شهيرة "الوقف الامريكي للديمقراطية" American Endowment For Democracy، وهي مؤسسة يرعاها جمهوريون ويوجه من منبرها، كل عام، الرئيس بوش خطابا هاما تتناقله وكالات الانباء ومحطات التلفزة وسائر وسائل الاعلام.
ولقد استضافت الندوة السيد روبرت بلليترو، مساعد وزير الخارجية الامريكية آنذاك، الى غداء مع المشاركين في الندوة وبينهم مثقفون عرب من الخليج الى المحيط، ولقد القى المسؤول الامريكي يومها خطابا تضمن نقدا لحال الديمقراطية في الوطن العربي، مع تركيز خاص على حال العراق الذي كان يخضع ايضا لحصار شامل وجائر (قبل اقرار برنامج النفط مقابل الغذاء).
بعد ان فرغ بلليترو من كلمته وفتح باب النقاش، توجهت الى المسؤول الامريكي بسؤالين لم يخف امتعاضه منهما، علما ان بلليترو اقل تزمتا وتحجرا وتعصبا بكثير من اركان الادارة الامريكية.
قلت في السؤال الاول لماذا تسمحون لانفسكم ان تلقوا علينا الدروس حول الديمقراطية في بلادنا ولا تسمحوا لنا بان ندلي برأي في الديمقراطية في بلادكم، هل لأنكم القوة الاكبر في العالم، ام لان ديمقراطيتكم ليس فيها عيوب؟ (هذا الكلام جاء قبل ان يفوز جورج دبليو بوش بالرئاسة عام 2000 بقرار قضائي).
اما في السؤال الثاني فقد سألت المسؤول الامريكي البارز: كيف توفقون بين حديثكم عن حقوق الانسان وبين الحصار الذي اودى بحياة مئات الالاف من الاطفال في العراق، ثم الا تعتقدون ان قتل المدنيين العراقيين في العراق من خلال الحصار لتحقيق اهداف سياسية هو ايضا عمل ارهابي خاصة اذا اعتبرنا ان الارهاب هو قتل مدنيين لغايات سياسية( وهنا ايضا لم تكن السيدة مادلين اولبرايت الوزيرة السابقة للخارجة الامريكية لدى سؤالها من طالب امريكي: هل تستحق سياستنا في العراق ان تؤدي الى موت مليون طفل عراقي، قد قالت : نعم انها تستحق، انها الحرب).
تجاهل بلليترو الاجابة على السؤال الاول، لانه اعتبر ان فيه قدرا من التطاول على "العزّة" الامريكية، فيما اسهب في الرد على السؤال الثاني بعرض تاريخي للعلاقة الامريكية – العراقية حاول – رغم الاسهاب - ان يتجنب التطرق الى المفارقة البارزة بين الحصار كعقوبة جماعية وبين حقوق الانسان كمبادئ صارمة ترفض هذا النوع من العقوبات.
استحضرت ذاك الحوار هذه الايام حيث لا يكاد يخلو تصريح لمسؤول امريكي عن سوريا من الحديث عن ضرورة تغيير "للسلوك السوري" كي لا يقع "تغيير النظام".
ورغم ان للمسؤولين السوريين اجوبتهم الواضحة على كل الملاحظات الامريكية تجاه "سلوكهم" في العراق وفلسطين ولبنان، وقد انطوى حديث الرئيس بشار الاسد مع قناة سي. إن. أن الامريكية على ردود قوية على هذه الاسئلة، الا ان السؤال الذي يتبادر الى الذهن في هذا المجال: ما هو موقف الشعب السوري من المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان؟
واذا كان الامريكيون يريدون ان يكون النظام السوري ديمقراطيا بالفعل، أي معبرا" عن ارادة الشعب السوري، فكيف سيكون موقفه اذن من الاحتلال في العراق وفلسطين ولبنان، ناهيك عن الاحتلال الاسرائيلي في الجولان، واذا تنكر النظام في سوريا لمقاومة الاحتلال في المنطقة، فاي شرعية ستبقى له؟ وهل ستحميه واشنطن حينذاك من شعب عرف عنه تعلقه بعروبته وعقيدته واستقلاله وسيادته وحقوق امته.
ولنعد الى مسألة "تغيير السلوك" هذا، الا تعتقد الادارة الامريكية انها هي المدعوة الى "تغيير سلوكها" من اجل تغيير نظرة العالم الى امريكا، بل تغيير نظرة الامريكيين انفسهم الى بلادهم؟
الا يظن الرئيس جورج بوش انه بحاجة شخصيا الى تغيير جدي في سياساته وسلوكه، لا لكي يستعيد ثقة غير الامريكيين به فحسب، بل ليستعيد ثقة الامريكيين انفسهم وقد بات ثلثاهم غير واثق من قدرته على ادارة شؤون البلاد، لا سيما بعد الاعصارات التي لم يعد يملك بوش ازاء مواجهة نتائجها سوى سبع زيارات لمدن الخليج الجنوبية لكي يلتقط الصور التلفزيونية هناك، كما تقول الصحفية درموت بورغافي في "الديلي ميرور" البريطانية.
وتغيير السلوك، او السياسات، بات اكثر من ضروري مع غرق كبار الساسة الجمهوريين في جرائم من نوع تبييض الاموال، كالنائب الجمهوري المتحمس لبوش توج دي لاي، او كرئيس كتلة الجمهوريين في الكونغرس الذي يتعرض لتحقيقات حول "صفقات اسهم"، بل مع وجود 18 مديرا كبيرا في شركات كبرى في السجن بسبب التزوير وسرقة البلايين، بمن فيهم شركاء الرئيس بوش في شركة انرون.
وتغيير هذا السلوك بات ضروريا حين نعلم حجم "الهوة العنصرية" بات كبيرا الى درجة ان معدل ما تمتلكه عائلة تنتمي الى العرق الابيض يبلغ 80.000 دولار فيما لا يزيد معدل ما تملكه عائلة من اللون الاسود عن ستة الاف دولار، واذا علمنا ايضا ان 46 مليون امريكي لا يستطيع توفير تأمينه الصحي وان 18مليون منهم سيموتون مبكرا بسبب ذلك.
وتغيير السلوك الامريكي، أو السياسات، بات اكثر من ضرورة اذا علمنا ان الدولة الاكبر والاغنى والاقوى في العالم بلغت مرتبتها الثالثة والاربعين في معدل وفيات الاطفال، وان طفلا يلد اليوم في بيجينغ في الصين يمتلك ثلاثة اضعاف حظ طفل امريكي لكي يحتفل بعيد ميلاده الاول، وان مرتبة امريكا في نتائج امتحانات فتيانها البالغين من العمر 15 عاما في القراءة والرياضيات هي مرتبة الدولة الرابعة والعشرين من اصل 29 دولة.
والسلوك الامريكي، او السياسات، هو الذي يقف وراء الحرب على العراق حيث ربح واشنطن هناك غير مؤكد كي لا نقول انه مستحيل، فيما خسارتها المؤكده - بحدها الادنى - بلغت 2000 قتيل وعشرات الالاف من الجرحى، وحيث كلفتها 6 مليارات دولار شهريا، وحيث بلغ عجز الموازنة رقما قياسيا مع وصوله الى 331 مليار دولار، وفي حال استمرار الاحتلال خمس سنوات، فمن المتوقع ان تبلغ التكاليف التي تتحملها العائلة الامريكية الواحدة 11.330 دولارا امريكيا، ناهيك عن الخسائر السياسية والاستراتيجية والاخلاقية الفادحة وحيث فضيحة ابو غريب، بعد غوانتانامو، باتت احد العناوين لهذه الخسائر الاخلاقية الكبرى.
اما مبلغ المائتي مليار دولار التي وعد بوش بتأمينها لمعالجة اثار كاترينا، فانه يزمع تخفيض بعض البرامج الحالية لتمويله من دون زيادة في الضرائب، مما دفع بالسناتور الجمهوري البارز هايغل الى القول بان "بوش لم يعد على اتصال بالواقع....". كما دفع كثيرون الى القول ان على بوش ان يختار بين الخروج مبكرا من العراق او الخروج مبكرا من البيت الابيض.
الا تؤدي هذه الحقائق، وهي بمجملها بنت الواقع الداخلي الامريكي، الى ان نرفع الصوت عاليا مع غالبية الامريكيين اليوم لكي ندعو البيت الابيض الى تغيير جذري في سلوكه والسياسات.
اما الحقائق الناجمة عن السلوك الامريكي، والسياسات، خاصة في العراق، فافضل وصف لها هو ان نستعيد ما قاله الاديب البريطاني الكبير، حائز جائزة نوبل للاداب لهذا العام، السيد هارولد بنتر في كلمته التي القاها في مطلع هذا العام وهو يتسلم جائزة ولفرد اوين، واوين هو الشاعر الذي وصف قبل اكثر من مائة عام مآسي الحروب واهوالها، بطريقة لم يصفها شاعر آخر، كما تقول جريدة الاندبندنت البريطانية.
قال حامل جائزة نوبل للاداب اليوم، وجائزة ولفرد اوين قبل اشهر:
"ماذا كان ولفرد اوين سيصف غزو العراق؟ اهو عمل قرصنة، ام عمل من اعمال ارهاب الدولة الفاضحة الذي يظهر ازدراء كاملا لمفهوم القانون الدولي، ام يعتبره عملا" عسكريا" عشوائيا تلهمه سلسلة من الاكاذيب فوق الاكاذيب، مع تلاعب هائل بوسائل الاعلام وبالتالي بالرأي العام. هل يصفه بانه عمل يهدف الى احكام السيطرة العسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة على الشرق الاوسط مقنعا بادعاءات التحرير والحرية. ام يعتبره تأكيدا" للقوة العسكرية المسؤولة عن قتل وتعذيب الاف والاف من الناس الابرياء.
ويقول بلنتر: ان احصاء مستقلا" وموضوعيا" لعدد المدنيين العراقيين الذي لاقوا حتفهم من جراء هذه الحرب، - حسب مجلة طبيعة (ذي لانسيت)- يقدرهم بحوالي 100.000، ولكن لا الولايات المتحدة ولا المملكة المتحدة اهتمتا بان تحصي عدد هؤلاء، بل ان رئيس هيئة الاركان الامريكية تومي فرانكس قال: "نحن لا نهتم بتعداد الجثث".
ألا تكفي هذه الشهادة من حائز هذه الجوائز العالمية لنكتشف ان الذي بحاجة فعلا لتغيير سلوكه وسياساته هو الادارة الامريكية قبل غيرها.
اما سلوك انظمتنا وسياساتهم فنحن اولى بالعمل على تغييرها بالاتجاه الذي يحصّن الثوابت الوطنية والقومية بدلا من ان يتراجع عنها، ويعمق نهج المشاركة الشعبية بدلا من الاذعان للاملاءات الاجنبية ، ويسعى الى معالجة الاختلال الداخلي بدلا من الوقوع في قبضة الاحتلال الخارجي.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home