الشرعية الدولية للأستاذ معن بشور
الشرعية الدولية
لمعن بشور
لمعن بشور
في معرض نقدهم للعديد من الأنظمة الشمولية في العالم، وخصوصا في المنظومة الشيوعية سابقا، يرى العديد من المحللين والمراقبين إن تضييق قاعدة المشاركة في القرار وحصرها في قلة قليلة، وأحيانا في فرد واحد، كان سببا رئيسيا لانهيار أنظمة كان يبدو أن قيادتها سهلة ما دامت محصورة بقلة، فيما الدفاع عنها صعب لأن الشعب لا يدافع عن وضع لا يشارك في صياغته.
فالشعب في هذه الأنظمة يتلخص بالحزب الحاكم، الواحد او القائد، ويتلخص الحزب بلجنته المركزية التي تتلخص هي الأخرى بالمكتب السياسي الذي يذوب تدريجيا في شخص الأمين العام الذي يصبح هو الحزب، وهو الشعب، وهو الوطن.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل أن الأنظمة الشمولية التي ترتكز في قيامها على عقيدة معينة، أيا كانت، تحول هذه العقيدة إلى "مقدس" يحّرم على المواطن مناقشته، ثم تدمج العقيدة بالحزب دمجا كاملا، والحزب بالأمين العام، فيصبح التعرض لشخصه، او للحزب، ناهيك عن العقيدة، تعرضا للمقدس يستوجب أقصى العقوبات.
واذا "تخشبت " هذه الانظمة، وجرى تجويفها من داخل، انقطعت علاقتها بالناس، وفقدت الحيوية والمبادرة الضرورية لاي تطوير او تقدم، وزاد الاعتماد على الملاحقة الامنية بديلا عن المشاركة الشعبية، وعلى القمع بديلا عن التفاعل مع الناس، وعلى الاجهزة الامنية بديلا عن المشاركة الديمقراطية.
نستعيد اليوم هذه الحقائق كلها، لنذكّر كثيرين اننا امام نظام عالمي جديد يتضمن في داخله السمات ذاتها التي اتسمت بها الانظمة الشمولية.
فماذا نجد على مستوى العلاقات الدولية ؟
نجد ان العالم بأسره بات مختصرا بالامم المتحدة، والامم المتحدة مختصرة بمجلس الامن (المكتب السياسي)، وهذا المجلس مختصر بممثل واشنطن فيه (الامين العام)، الذي لم يخف سابقا، كما لا يخفي حاليا، ازدراءه للامم المتحدة واستخفافه بالكثير من قراراتها التي اتخذت في غفلة عنه.
ومن اجل استكمال هذا المشهد، لا بد هنا ايضا من "مقدس" يبرر هذه "الالية الشمولية" على المستوى العالمي، قيبرز هنا مصطلح "الشرعية الدولية" كمرادف "للمقدس"، وتصبح "الحرب على الارهاب" هي آلية ملاحقة كل ما يتعرض لهذا "المقدس" او للمؤسسات المتصلة به، كما هي تهمة "بالاخلال بالامن القومي" التي تلاحق المعارضين في الانظمة الشمولية.
وفي الحالتين، تغيب آليات المحاسبة والمراقبة والمساءلة، بل حتى العودة الى مبادئ هذا "المقدس" الاساسية لكي تحاكم وفقها الممارسات والقرارات.
ويبقى السؤال ما هي الشرعية الدولية؟ وهل الشرعية الدولية هي مجرد قرارات يتخذها مجلس الامن ام هي مجمل البنية التشريعية والقانونية التي تقوم عليها المنظمة الدولية؟ واذا خالفت القرارات الدولية ميثاق الامم المتحدة (أي الدستور) فلمن الغلبة للدستور ام لقرار مجلس الامن؟ واذا انتهكت هذه القرارات القانون الدولي (أي القوانين التشريعية المرعية الاجراء)، فلمن الغلبة للقرار ام للقانون؟
ثم من هي المرجعية التي تفصل في مدى شرعية ، قرارات مجلس الامن أي مدى تطابقها مع ميثاق الامم المتحدة او في مدى "قانونية" هذه القرارات أي مدى التزامها بالقانون الدولي؟
في اية دولة تمتلك الحد الادنى من البنية الدستورية والقانونية نجد مرجعيتين للفصل في دستورية القوانين او قانونية القرارات، فهناك مجلس دستوري او محكمة دستورية عليا يمكن اللجوء اليه، او اليها، من اجل نقض أي قانون يصدر عن مجلس النواب اذا لم يكن هذا القانون دستوريا أي منسجما مع النص الدستوري، وهناك ايضا القضاء الاداري الذي يمكن اللجوء اليه للطعن بأي قرار يصدر عن الحكومة او احدى وزاراتها، ولا يكون منسجما مع القوانين المرعية الاجراء.
فأين هي المرجعية القادرة على الفصل في شرعية قرارات مجلس الامن او في قانونيتها؟
وهل مجلس الامن هو سلطة تشريعية في الامم المتحدة لكي تصبح لقراراته قوة القانون وبالتالي تصبح خاضعة لمحكمة دستورية عالمية؟ ام هو سلطة تنفيذية فتصبح قراراتها خاضعة لقضاء اداري دولي.
ان غياب مثل هذه المرجعيات القضائية على المستوى الدولي، دستورية كانت ام ادارية، يضرب مبدأ الفصل بين السلطات الذي هو ركيزة رئيسية من ركائز الديمقراطية، ويحّول مجلس الامن الى ما يشبه الحاكم المطلق الذي يجمع بين يديه سلطة التشريع وسلطة التنفيذ وسلطة القضاء أي سلطة اصدار الاحكام في وقت واحد.
لقد كان البعض يرى في حق النقض الممنوح للدول دائمة العضوية في مجلس الامن ضمانة كي لا تتحول قرارات هذا المجلس الى مجرد امتداد لاملاءات دولة كبرى دون غيرها، الا ان التبدل الحاصل في النظام الدولي بعد انهيار القطب السوفياتي، والهيمنة الامريكية الضاغطة على جميع الدول، بما فيها دول "الفيتو"، قد اديا الى سقوط هذه الضمانات، وحوّلا مجلس الامن الى ما يشبه غرفة "مقاصة" سياسية يجري فيها تبادل منافع، ومقايضة خدمات ومصالح بين الدول دائمة العضوية على حساب الدول الاخرى، لا سيما انه بات في يد واشنطن من الأوراق الامنية والسياسية والاقتصادية، في كل انحاء العالم، ما يمكنها من اسكات أي صوت معارض داخل مجلس الامن.
ولقد ادى هذا الانقلاب المريع في موازين القوى الدولية، وما نجم عنه من انصياع شبه كامل للاملاءات الامريكية، الى واقع تبتعد فيه بعض القرارات الدولية عن ميثاق الامم المتحدة وعن القانون الدولي العام وعن جملة الاتفاقيات الدولية والاعلانات العالمية والتي يطلق عليها القانون الدولي الانساني، بل وتناقضها احيانا، فتنامى مع هذا التباعد والتناقض احساس في الضمير الجماعي للشعوب، لا سيما الشعوب العربية والاسلامية، بان الشرعية الدولية باتت تفتقد الى "العدالة الدولية". وان الهوة آخذة في الازدياد بين المنظمة الدولية وابناء هذه المنطقة.
وما يزيد من هذه الهوة ايضا هو الاحساس المتزايد بازدواجية المكاييل في التعامل مع القرارات الدولية، فبعض هذه القرارات يجري اهماله وتجاهله اذا كان الطرف المتضرر منه هو الكيان الصهيوني (منذ القرار 194 عام 1948 حتى قرار ارسال لجنة تقصي الحقائق في مجزرة جنين عام 2002 مرورا بقرارات عديدة اخرى 242 و338 و425 ناهيك عن الفقرة 14 من القرار الدولي 667 الصادر عام 1991 التي تنص على ضرورة نزع كل اسلحة الدمار الشامل من دول الشرق الاوسط بعد ان يتم التأكد من عدم وجود هذه الاسلحة في العراق)، فيما تشن حروب تدميرية وتعلن عقوبات جماعية ضد دول اخرى في المنطقة بذريعة تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
والافظع من هذا كله طبعا هو ان "قائدة " النظام العالمي الجديد، وحاكمة العالم باسم مجلس الامن، أي الادارة الامريكية ، ترفض بوضوح الانصياع لارادة المجتمع الدولي حين يكون هذا الانصياع في غير مصلحة الدوائر السياسية والاقتصادية المتنفذة فيها.
فواشنطن رفضت الالتزام بمقررات القمة العالمية حول البيئة التي انعقدت في كيوتو والتي حاولت معالجة الانبعاث الحراري الذي تتحمل الصناعات الامريكية المسؤولية الاكبر في حصوله وبالتالي في التداعيات الخطرة الناجمة عنه على صعيد البيئة والمناخ في العالم، وهو رفض ما زال مستمرا خلال محادثات مونتريال – كندا الجارية هذا الاسبوع بين دول الشمال ودول الجنوب.
والادارة الامريكية رفضت التوقيع على اتفاقية روما الخاصة بتشكيل المحكمة الجنائية الدولية، التي وقعت عليها، في آواخر القرن الماضي، اغلب الدول المنضوية في الامم المتحدة، وكأنها تريد ان تقول ان المسؤولين في واشنطن هم فوق القانون الدولي وخارج أي مقاضاة دولية.
والتفرد بقرار الحرب على العراق، الذي وصفه امين عام الامم المتحدة كوفي آنان بانه "غير قانوني وغير شرعي" والذي اعلن وزير الخارجية الامريكي السابق كولن باول عن ندمه على مشاركته في "الكذب على العالم"، تماما كما اعلنت وزيرة الخارجية الاسبق مادلين اولبرايت عن اسفها عن تصريحات سابقة لها تقول فيها "ان سياسة حكومتها في العراق تستحق موت كل هذا العدد من اطفال العراق بسبب الحصار"، تأكيد على ان واشنطن تعامل المجتمع الدولي على قاعدة القبول بقراراته اذا كانت لمصلحتها، وتجاوز وجوده اذا لم ينفذ سياساتها.
هنا يتساءل المواطن اين هي المرجعية الدولية التي لا تدقق فقط في شرعية القرارات الدولية التي يتخذها مجلس الامن وقانونيتها، بل ايضا في مدى قيام مجلس الامن نفسه بواجبه في تنفيذ هذه القرارات بشكل متوازن وعادل وغير انتقائي او استنسابي، بل في محاكمة الخارجين عن القانون الدولي مهما كان نفوذهم كبيرا، اذ لا يجوز ان يكون هناك امام الشرعية الدولية "ابناء ست وابناء جارية"، كما هو حاصل اليوم.
في غياب هذه المرجعيات القضائية الدولية، "يتخشب" النظام الدولي ومؤسساته، ويزداد التطاول على "المقدس الجديد" الذي يسمونه الشرعية الدولية، وتفتقد المؤسسة الدولية دورها في ان تكون الحكم والمحكمة في العلاقات بين الدول، وتنحسر شعبيتها يوما بعد يوم، وتزداد الخشبة من ان تكرر الامم المتحدة، وهي انجاز انساني كبير، دور عصبة الامم ما بين الحربين العالميتين، فتطيح بها الفاشية الجديدة المتمثلة بالادارة الامريكية مثلما اطاحت الفاشية القديمة بالعصبة القديمة.
بل يزداد القلق من ان تصبح "الشمولية" العالمية الجديدة مجرد تكرار على المستوى الدولي للشموليات القديمة، التي انهارت الواحدة تلو الاخرى، دون ان تجد من يدافع عنها.
فمتى تصبح الشرعية الدولية مرادفة للعدالة الدولية؟ ومتى تعود المنظمة الدولية بمثابة برلمان العالم وحكومته وقضائه في آن معا، بدلا من ان تتحول الى واجهة لاملاءات طرف واحد لم يعد مقنعا لغالبية مواطنيه، بل متى تصبح القرارات الدولية خاضعة للمراقبة والمساءلة بدلا من ان تتحول الى موضع نقد وتشكيك يتزايد لدى الشعوب.
للعودة الى: سيبقى العراق الى ألأبـــــد
0 Comments:
Post a Comment
<< Home