إجتثاث الدولة العراقية
اجتثاث الدولة هدف كل ما يجري في العراق
محمد عارف
ذكر ديفيد ساترفيلد، مُنسّق ملف العراق في وزارة الخارجية الأميركية أن "العراق يحتاج إلى أربعة مليارات دولار لمساعدته في إنفاق 12 مليار و500 مليون دولار متراكمة في حساباته". وقال ساترفيلد في شهادته أمام "لجنة العلاقات الخارجية" في الكونجرس، إن الأولوية في عملية إعادة إعمار العراق تعود إلى ما يسميه المحاسبون "القدرة على تنفيذ الميزانية المالية". وتساءل ساترفيلد: "لماذا لم يستطع العراق إنفاق هذه الأموال؟ ولماذا لم يستطع وزير النفط إنفاق ثلاثة مليارات و500 مليون دولار في ميزانيته الاستثمارية؟ ولماذا لم يُنفق سوى 6 في المئة من هذا المبلغ؟" تفسير ذلك، حسب تقديره: "ليس الفساد، ولا السياسة، ولا الوضع الأمني، بل هو بالحرف الواحد؛ انعدام الآليات ونقص الخبرة والقدرة على إنفاق المبالغ الموجودة في أيدي العراقيين".
مفارقات مماثلة وقعت زمن الانتداب البريطاني في العراق في القرن الماضي دفعت الشاعر الشعبي عبود الكرخي إلى استخدام كلمات إيرانية في قصيدة ساخرة قال فيها:
("يك شيزي" بده حتى يشوفونه/خلّي الشيخ نايم لا تجعدونه!)، ويعني؛ ارم قطعة نقود حتى يراك الناس فيفعلون مثلك، ودعِ الشيخ نائماً لا توقظه.
وهل هناك أكثر هزلاً من مصادقة حكومة بغداد على "قانون النفط" الذي يجلب آلاف المليارات من الدولارات، وهي عاجزة عن إنفاق بضعة مليارات؟ وأكثر الوزارات عجزاً عن الإنفاق، النفط والدفاع، حسب شهادة مستشارين ماليين أميركيين لحكومة بغداد ذكروا أن الوزارتين تدفعان بشكل منتظم غالباً مرتبات الموظفين والعسكريين، لكنهما لم تنفقا لحد الآن الأموال المخصصة لبناء آبار نفطية، أو لتجهيز المعسكرات. وذكر مسؤول سابق في وزارة الخزانة الأميركية لصحيفة "نيويورك سان" أن معظم الوزارات العراقية تفتقر إلى أجهزة إلكترونية لحساب الإنفاق والدخل، بما في ذلك مراكز الشرطة والجيش، وقال إن "وزارات عدة تعتمد على الورق وقلم الرصاص، وكتابة سجلاتها الحسابية يدوياً". وتمنى المسؤول الأميركي "لو توفرت أوراق استنساخ للموظفين العراقيين الذين يعمدون عادة إلى شرائح كبيرة من الورق يخططون عليها أبواب وجداول الإنفاق"!
ويذكر خبراء المالية الأميركيون أن الافتقار إلى أجهزة حسابات إلكترونية شجّع على الفساد، وتلفيق قوائم صرف مزيفة لمقاولين لا وجود لهم، والتأخر في إتمام الموازنات في وزارة المالية، ونقل مرتبات الموظفين نقداً من المصارف، إلى الدوائر الحكومية في معظم المحافظات، وما يكلفه ذلك من نفقات باهظة في ظروف الأمن الحالية. والرقم القياسي في الخسارة يعود إلى وزارة النفط التي تواصل ضخ 85 في المئة من صادرات النفط الخام من دون عدّادات. وقد خسر العراق مليارات الدولارات بسبب تخريب العدادات خلال الغزو في أرصفة التصدير في مينائي البصرة و"خور العمية". ذكرت ذلك دراسة "لغز العدادات المختفية" التي صدرت الأسبوع الماضي عن منظمة مراقبة الشركات "كوربووتش" في كاليفورنيا.
ولم تنجز لحد الآن مقاولة إنشاء نظام مالي إلكتروني للحكومة العراقية، وكانت قد مُنحت عام 2004 لشركة الاستشارات الأميركية "بيرينغ بوينت" التي حققت مليارات الدولارات من مشاريع إعادة إعمار العراق. وحتى إذا حدثت معجزة تحل جميع المشاكل المذكورة أعلاه، فهناك مشكلة عدم وجود محاسبين في العراق! ويذكر هايلل واينبرغ، مدير الإدارة سابقاً في "لجنة الشؤون الخارجية" في الكونغرس، أن هذا الأخير شرع خلال عام 2005 في التساؤل حول موضوع "الجهاز المحاسبي في العراق"، وقد تقرر أن يشمل إعمار العراق تدريب مديري مشتريات، ومحاسبين وخبراء في الميزانية، وتنسيبهم للعمل في مراكز الشرطة والوحدات العسكرية.
وأتوقع أن تحافظ مُبادرة التدريب الجديدة على الأرقام القياسية العالمية التي حققتها برامج تدريب العراقيين على كل شيء، من تدريب العسكريين على السلاح، والشرطة على التحقيق مع "الإرهابيين"، وإدارة البيئة على تقليل إطلاق غازات ثاني أوكسيد الكربون في الجو، إلى ممارسة الديمقراطية، وتشكيل الأحزاب والجمعيات، وتنظيم الانتخابات، وتعليم النساء كيفية المطالبة بحقوقهن... وغير ذلك من برامج كلّفت ملايين الدولارات من أموال العراقيين!
ويمكن التعرف على مردود هذه البرامج من تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" عن منطقة ديالى، حيث منحت الخارجية الأميركية، المسؤولة عن برامج الإعمار، عقد نشر الديمقراطية إلى مواطن باكستاني لم يعرف العيش أو العمل في بلد ديمقراطي، وعهدت بإدارة مشاريع الإنشاءات في ديالى إلى قائد حرس حدود سابق في الولايات المتحدة لا يملك خبرة في الإنشاءات، وأسندت مهمة الاتصالات مع السفارة الأميركية في بغداد إلى شخص لا يملك خلفية حول كتابة البرقيات الدبلوماسية. ولم تعيّن وزارة الخارجية الأميركية سوى مستشار زراعي واحد في ديالى، منذ تعهدها قبل عام بتعيين ستة مستشارين. وبعد مرور أربع سنوات على شروعها بتنفيذ برامج إعادة إعمار محافظات العراق، لا يوجد حالياً سوى 30 شخصاً يقومون بذلك، عشرة منهم في ديالى، يقيمون في المعسكرات، ولا يغادرونها إلاّ لماماً.
اجتثاث الدولة إذن هدف لكل ما يجري في العراق. فذلك هو العنوان الخفي لتشريعات "اجتثاث البعث" و"حل القوات المسلحة" و"خصخصة القطاع العام" و"الدستور" و"الانتخابات"، وهو كلمة السر في عمليات النهب والفساد والمذابح وتدمير الخدمات العامة وتشريد أربعة ملايين شخص بينهم نخبة المهن العلمية والأكاديمية والطبية والهندسية والمالية، وهو السبب في موت نحو مليوني شخص منذ فرض الحظر الشامل على العراق عام 1991 حتى "قانون النفط والغاز" الذي تقام المذابح لتمريره.
ولن أنسى حديثاً في مؤتمر للعلماء العراقيين في العاصمة الأردنية يلقي الضوء على استماتة هذه الدولة من أجل البقاء. كان ذلك على مائدة الفطور مع الدكتور داخل حسن جريو، رئيس "المجمع العلمي العراقي" الذي يمثل أكاديمية العلوم، والدكتور جعفر ضياء جعفر، النائب السابق لرئيس المجمع، وكان موضوع الحديث مشروع تعريب المصطلحات العلمية. وأنقل هنا بضعة أرقام سجلتها على قائمة الطعام، وكانت الورقة الوحيدة المتوفرة على المنضدة، وجاء فيها أن "المجمع العلمي" ترجم 62 ألف مصطلح علمي وهندسي منذ تأسيسه عام 1947. وبعد صدور قرار "الأمم المتحدة" عام 1991 بالقضاء على برامج الدفاع العلمية والتكنولوجية تعاقد "المجمع العلمي" مع 60 عالماً ومهندساً من اختصاصات مختلفة لترجمة المصطلحات. وفي السنة الأولى تُرجم 150 ألف مصطلح، وعند نشوب الحرب كان الفريق على وشك الانتهاء من ترجمة، وتدقيق مليوني مصطلح. ماذا حل بالشرائط الإلكترونية التي تضم هذه الثروة العلمية الثمينة؟
إذا كان السيد المسيحُ عليه السلام يلتمس المغفرة لمن ظلموه "لأنهم لا يعرفون ما يفعلون"، فاللهم لا تغفر لكل من يعمل على اجتثاث الدولة العراقية، فإنهم يعرفون ما يفعلون. والسؤال هو: هل يمكنهم تحقيق ذلك؟ لقد ولد السيد المسيح بعد آلاف السنين من نشوء مؤسسة الدولة في بلاد ما بين النهرين، وهي الدولة التي تصور صراعَها من أجل البقاء أقدمُ الأساطير الإنسانية وأكثرها عنفواناً. يروي ذلك كتاب "الفكر السياسي في العراق القديم" للدكتور عبد الرضا الطعان، أستاذ علم السياسة سابقاً في جامعة بغداد، والذي يقيم حالياً في المنفى!
صحيفة ألإتحاد الإماراتية: العدد 27334 بتاريخ 2007-04-05
مفارقات مماثلة وقعت زمن الانتداب البريطاني في العراق في القرن الماضي دفعت الشاعر الشعبي عبود الكرخي إلى استخدام كلمات إيرانية في قصيدة ساخرة قال فيها:
("يك شيزي" بده حتى يشوفونه/خلّي الشيخ نايم لا تجعدونه!)، ويعني؛ ارم قطعة نقود حتى يراك الناس فيفعلون مثلك، ودعِ الشيخ نائماً لا توقظه.
وهل هناك أكثر هزلاً من مصادقة حكومة بغداد على "قانون النفط" الذي يجلب آلاف المليارات من الدولارات، وهي عاجزة عن إنفاق بضعة مليارات؟ وأكثر الوزارات عجزاً عن الإنفاق، النفط والدفاع، حسب شهادة مستشارين ماليين أميركيين لحكومة بغداد ذكروا أن الوزارتين تدفعان بشكل منتظم غالباً مرتبات الموظفين والعسكريين، لكنهما لم تنفقا لحد الآن الأموال المخصصة لبناء آبار نفطية، أو لتجهيز المعسكرات. وذكر مسؤول سابق في وزارة الخزانة الأميركية لصحيفة "نيويورك سان" أن معظم الوزارات العراقية تفتقر إلى أجهزة إلكترونية لحساب الإنفاق والدخل، بما في ذلك مراكز الشرطة والجيش، وقال إن "وزارات عدة تعتمد على الورق وقلم الرصاص، وكتابة سجلاتها الحسابية يدوياً". وتمنى المسؤول الأميركي "لو توفرت أوراق استنساخ للموظفين العراقيين الذين يعمدون عادة إلى شرائح كبيرة من الورق يخططون عليها أبواب وجداول الإنفاق"!
ويذكر خبراء المالية الأميركيون أن الافتقار إلى أجهزة حسابات إلكترونية شجّع على الفساد، وتلفيق قوائم صرف مزيفة لمقاولين لا وجود لهم، والتأخر في إتمام الموازنات في وزارة المالية، ونقل مرتبات الموظفين نقداً من المصارف، إلى الدوائر الحكومية في معظم المحافظات، وما يكلفه ذلك من نفقات باهظة في ظروف الأمن الحالية. والرقم القياسي في الخسارة يعود إلى وزارة النفط التي تواصل ضخ 85 في المئة من صادرات النفط الخام من دون عدّادات. وقد خسر العراق مليارات الدولارات بسبب تخريب العدادات خلال الغزو في أرصفة التصدير في مينائي البصرة و"خور العمية". ذكرت ذلك دراسة "لغز العدادات المختفية" التي صدرت الأسبوع الماضي عن منظمة مراقبة الشركات "كوربووتش" في كاليفورنيا.
ولم تنجز لحد الآن مقاولة إنشاء نظام مالي إلكتروني للحكومة العراقية، وكانت قد مُنحت عام 2004 لشركة الاستشارات الأميركية "بيرينغ بوينت" التي حققت مليارات الدولارات من مشاريع إعادة إعمار العراق. وحتى إذا حدثت معجزة تحل جميع المشاكل المذكورة أعلاه، فهناك مشكلة عدم وجود محاسبين في العراق! ويذكر هايلل واينبرغ، مدير الإدارة سابقاً في "لجنة الشؤون الخارجية" في الكونغرس، أن هذا الأخير شرع خلال عام 2005 في التساؤل حول موضوع "الجهاز المحاسبي في العراق"، وقد تقرر أن يشمل إعمار العراق تدريب مديري مشتريات، ومحاسبين وخبراء في الميزانية، وتنسيبهم للعمل في مراكز الشرطة والوحدات العسكرية.
وأتوقع أن تحافظ مُبادرة التدريب الجديدة على الأرقام القياسية العالمية التي حققتها برامج تدريب العراقيين على كل شيء، من تدريب العسكريين على السلاح، والشرطة على التحقيق مع "الإرهابيين"، وإدارة البيئة على تقليل إطلاق غازات ثاني أوكسيد الكربون في الجو، إلى ممارسة الديمقراطية، وتشكيل الأحزاب والجمعيات، وتنظيم الانتخابات، وتعليم النساء كيفية المطالبة بحقوقهن... وغير ذلك من برامج كلّفت ملايين الدولارات من أموال العراقيين!
ويمكن التعرف على مردود هذه البرامج من تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" عن منطقة ديالى، حيث منحت الخارجية الأميركية، المسؤولة عن برامج الإعمار، عقد نشر الديمقراطية إلى مواطن باكستاني لم يعرف العيش أو العمل في بلد ديمقراطي، وعهدت بإدارة مشاريع الإنشاءات في ديالى إلى قائد حرس حدود سابق في الولايات المتحدة لا يملك خبرة في الإنشاءات، وأسندت مهمة الاتصالات مع السفارة الأميركية في بغداد إلى شخص لا يملك خلفية حول كتابة البرقيات الدبلوماسية. ولم تعيّن وزارة الخارجية الأميركية سوى مستشار زراعي واحد في ديالى، منذ تعهدها قبل عام بتعيين ستة مستشارين. وبعد مرور أربع سنوات على شروعها بتنفيذ برامج إعادة إعمار محافظات العراق، لا يوجد حالياً سوى 30 شخصاً يقومون بذلك، عشرة منهم في ديالى، يقيمون في المعسكرات، ولا يغادرونها إلاّ لماماً.
اجتثاث الدولة إذن هدف لكل ما يجري في العراق. فذلك هو العنوان الخفي لتشريعات "اجتثاث البعث" و"حل القوات المسلحة" و"خصخصة القطاع العام" و"الدستور" و"الانتخابات"، وهو كلمة السر في عمليات النهب والفساد والمذابح وتدمير الخدمات العامة وتشريد أربعة ملايين شخص بينهم نخبة المهن العلمية والأكاديمية والطبية والهندسية والمالية، وهو السبب في موت نحو مليوني شخص منذ فرض الحظر الشامل على العراق عام 1991 حتى "قانون النفط والغاز" الذي تقام المذابح لتمريره.
ولن أنسى حديثاً في مؤتمر للعلماء العراقيين في العاصمة الأردنية يلقي الضوء على استماتة هذه الدولة من أجل البقاء. كان ذلك على مائدة الفطور مع الدكتور داخل حسن جريو، رئيس "المجمع العلمي العراقي" الذي يمثل أكاديمية العلوم، والدكتور جعفر ضياء جعفر، النائب السابق لرئيس المجمع، وكان موضوع الحديث مشروع تعريب المصطلحات العلمية. وأنقل هنا بضعة أرقام سجلتها على قائمة الطعام، وكانت الورقة الوحيدة المتوفرة على المنضدة، وجاء فيها أن "المجمع العلمي" ترجم 62 ألف مصطلح علمي وهندسي منذ تأسيسه عام 1947. وبعد صدور قرار "الأمم المتحدة" عام 1991 بالقضاء على برامج الدفاع العلمية والتكنولوجية تعاقد "المجمع العلمي" مع 60 عالماً ومهندساً من اختصاصات مختلفة لترجمة المصطلحات. وفي السنة الأولى تُرجم 150 ألف مصطلح، وعند نشوب الحرب كان الفريق على وشك الانتهاء من ترجمة، وتدقيق مليوني مصطلح. ماذا حل بالشرائط الإلكترونية التي تضم هذه الثروة العلمية الثمينة؟
إذا كان السيد المسيحُ عليه السلام يلتمس المغفرة لمن ظلموه "لأنهم لا يعرفون ما يفعلون"، فاللهم لا تغفر لكل من يعمل على اجتثاث الدولة العراقية، فإنهم يعرفون ما يفعلون. والسؤال هو: هل يمكنهم تحقيق ذلك؟ لقد ولد السيد المسيح بعد آلاف السنين من نشوء مؤسسة الدولة في بلاد ما بين النهرين، وهي الدولة التي تصور صراعَها من أجل البقاء أقدمُ الأساطير الإنسانية وأكثرها عنفواناً. يروي ذلك كتاب "الفكر السياسي في العراق القديم" للدكتور عبد الرضا الطعان، أستاذ علم السياسة سابقاً في جامعة بغداد، والذي يقيم حالياً في المنفى!
صحيفة ألإتحاد الإماراتية: العدد 27334 بتاريخ 2007-04-05
0 Comments:
Post a Comment
<< Home