هل سينتحر الأميركيون على أسوار بغداد؟
فاضل الربيعي
فاضل الربيعي
يخطئ العراقيون إذا اعتقدوا أن "سور الأعظمية العظيم" هو سور عزل طائفي القصد منه عزل "طائفة بعينها" عن بقية الطوائف، وسوف يخطئون أكثر إذا ما ركزوا أنظارهم على هذا البعُد وحده في المسألة وتناسوا أو أهملوا رؤية الأهداف الحقيقية "ما وراء السور" وهي كثيرة بكل تأكيد.
وقد يرتكب العراقيون خطأ مأسويا فظيعا، إذا ما ظنوا أن الهدف من بناء الحاجز الكونكريتي العملاق، سوف ينحصر كليا في إنشاء منعزل "غيتو سني" في قلب بغداد، بينما تصبح الأحياء "الشيعية" آمنة وبعيدة عن هذا الخطر.
الهدف، كما يتبين اليوم، أكبر وأخطر وأبعد بكثير من مجرد عزل طائفة عن أخرى. إنه بكلمة واحدة خطر يشمل الجميع.
ولكن؛ لماذا الأعظمية الآن دون سواها من الأحياء والمناطق في بغداد؟ وما هي دلالات وبواعث ودوافع اختيارها؟
إذا ما نظر العراقيون بتبصر وبقدر أكبر من الشعور بالمسؤولية الجماعية وبروح التضامن حيال كل خطر جماعي يواجه السكان تحت الاحتلال يوحدهم من حول أهداف مشتركة؛ فإنهم سوف يتمكنون من رؤية ما هو أدهى وأمر من مجرد وجود خطر محدود يواجه هذه الطائفة دون تلك. ففي "ما وراء السور" ثمة خطر يتربص بكل العراقيين أيا كانت طوائفهم وأديانهم ومعتقداتهم.
وإذا ما أمعنوا النظر فيما هو أبعد "من مجرد حجارة عملاقة" تفصل اليوم هذا الحي السني عن ذاك المحيط الشيعي؛ فإنهم سوف يدركون جسامة الخطر وعظم المسؤولية الملقاة على عواتقهم الآن، وفي هذه اللحظات الفاصلة حين يصبح العراق بأسره ضحية عبث مأساوي بمصير أولاده وبوجودهم التاريخي كشعب.
اختيار الأعظمية لتجربة بناء جدار عازل يقع في قلب تجربة أكبر وأوسع نطاقا وأكثر نموذجية بالنسبة للأميركيين، فهو من أجل قياس رد فعل العراقيين ككل.
هاكم بعض الأهداف المحتملة في "ما وراء السور":
1- إن بناء الجدار العازل يندرج في إطار خطة إستراتيجية كبرى بعيدة المدى، قد تستغرق سنوات عدة وتعتمد على تكتيك المراوغة والمماطلة والشد والجذب إلى أبعد حد ممكن.
ولعل الغموض الذي أحاط الهدف الحقيقي من إنشاء الجدار -علما بأن الأميركيين هم أول من قام بتسريب النبأ لوسائل الإعلام- يبين وعلى أكمل وجه مغزى اعتماد هذا النوع من التكتيكات المضللة.
لقد كشف الجدل الذي دار على امتداد أسبوع كامل بين رئيس الحكومة وبعض قادة الخطة الأمنية من جهة وبين رئيس الحكومة والأميركيين من جهة أخرى، أن الذين صمموا ونفذوا مشروع السور كانوا ولا يزالون يخططون لبناء سلسلة أسوار سوف تحيط الأحياء الشيعية والسنية على حد سواء.
ليست بغداد في إطار هذه الإستراتيجية سوى مرحلة أولى قبل الانتقال إلى مرحلة تعميم التجربة في العراق كله. ولذلك فلا معنى أبدا للشعارات التي يرددها بعض العراقيين والقائلة إن الجدار هو جدار عزل طائفي.
ويجدر بهم جميعا شيعة وسنة أن يكفوا عن رؤية الأحداث من منظور طائفي، وبدلا من ذلك عليهم التركيز على المخاطر التي تطاول وجودهم كجماعة بشرية.
وفي هذه الحالة، فإن البُعد الطائفي في مسألة بناء الجدار سيكون بعدا وهميا انصرفت إليه أنظار المحتجين.
2- إن تكريس مشاعر زائفة عن وجود خطر "وراء السور" يهدد هذه الطائفة أو تلك له أغراض متعددة ومتشابكة؛ لعل أخطرها إشاعة "ثقافة خوف" جديدة بين العراقيين يصبح فيها المحتل هو المخلص؛ بل والطرف الوحيد القادر على صد الخطر عنهم وتأمين حمايتهم.
والمثير أن بعض القوى والجماعات السياسية تروج اليوم، ربما من دون وعي كاف أو تدقيق ومراجعة؛ لمزاعم تقول إن العراقيين أثناء المداهمات أصبحوا يفضلون "أن يقوم الأميركيون باعتقالهم بدلا من أجهزة الشرطة والجيش" بدعاوى أن عناصر الشرطة تقوم بقتلهم بينما لا يفعل الأميركيون الشيء نفسه؟
ثقافة الخوف هذه هي لب وجوهر إستراتيجية بوش الأمنية في العراق. وعندما يصبح سكان بلد محتل تحت رحمة هذا النوع من الثقافة؛ فإن القبول بفكرة العيش داخل "غيتوات- منعزلات" يصبح نوعا من الحل.
وهذا هو المغزى الفعلي والحقيقي للعبارة المريعة التالية التي رددها الأميركيون منذ اليوم الأول لتسريب نبأ إنشاء الجدار، ثم قيام حكومة المنطقة الخضراء بتبرير ذلك: "جدار الأعظمية تم بموافقة السكان وبرغبتهم ومن أجل مصلحتهم في التخلص من خطر الإرهابيين؟"
3- في خضم الجدل الصاخب ثم الارتباك الذي ساد أوساط الحكومة والسياسيين والكتل البرلمانية حول مبررات وجود سور الأعظمية، وأخيرا مع إعلان قادة جيش الاحتلال الأميركي تراجع الحكومة عن رفض الاستمرار في البناء وانتقالها إلى الموافقة الرسمية والعلنية على مواصلته، اتضح بجلاء أيضا أن هناك من يدير دفة النقاش برمته في الخفاء ومن "وراء ُجدر" بحيث تم حصر المسألة برمتها في هذا النطاق وحده من أشكال الخطر.
وفي هذه الحالة سوف يختفي "خطر الاحتلال" ويحل محله خطر الخوف من آخر "شيعي أو سني". أي تحويل الخطر إلى خطر عراقي خالص، صادر عن السكان تحت الاحتلال أنفسهم وليس عن عدوهم. وفي هذه الحالة سوف يصبح العدو "كأنه أخ حميم"؟
4- إذا ما انصرفت أنظار العراقيين المحتجين على بناء الجدار العازل ومن دون تبصر إلى البُعد الطائفي، وراحوا يركزون عليه في تظاهراتهم الاحتجاجية وفي نقاشهم السياسي وكأنه الهدف الحقيقي والوحيد أو كأن سبب إنشائه هو مواجهة "كره الطائفة الأخرى لنا"؛ فإنهم في هذه الحالة سيغرقون أكثر فأكثر في أوحال معركة وهمية ضد عدو وهمي.
إن خلق عدو وهمي "في ما وراء السور" إستراتيجية أميركية كبرى ليس العراق فيها سوى جزء صغير وحسب ستجري فوق أرضه عملية اختبار ميدانية واسعة النطاق لقياس رد الفعل لا عند السكان في هذا البلد المحتل وإنما في بلدان أخرى مجاورة عربية وغير عربية، تسترق السمع هي الأخرى "من وراء جُدر" إلى الجدل الصاخب الدائر بين العراقيين بين مؤيد ومعارض.
إنه نقاش غريب ومثير يدور حول عدو وهمي لا خلاص منه إلا في العيش داخل "غيتو".
5- ليس هذا العدو الوهمي سوى العدو نفسه الذي خلقته الولايات المتحدة الأميركية وأطلقت علبه اسم "الإرهاب". وهكذا ومع انتشار ثقافة الخوف من آخر (سني، شيعي) يصبح الإرهاب نفسه خطرا محليا تقع مسؤولية مواجهته لا على الدولة الأعظم في العالم بل على سكان كل بلد ومهما كانت ظروفه وأوضاعه.
وفي هذه الحالة أيضا فإن الحل الوحيد هو قبول السكان، وربما ترحيبهم بإنشاء "غيتوات" إضافية في كل حي وشارع ومنطقة.
ذلك ما يفسر سبب ترحيب بعض قادة الائتلاف الشيعي (خصوصا رجل الدين جلال الصغير) بهذا النوع من الحلول المريعة.
وبالفعل فإن تركيز قادة الخطة الأمنية ورئيس الحكومة والسفير الأميركي، وحتى بعض القادة الميدانيين الأميركيين على أن الهدف من إنشاء جدار العزل العنصري هو "حماية سكان الأعظمية من الإرهاب والإرهابيين" لا يندرج إلا في هذا السياق.
أنتم ونحن نواجه عدوا مشتركا "في ما وراء السور" يكرهكم ويكرهنا! والآن تفضلوا وعيشوا داخل "حاويات من الحجر" سنحكم إغلاقها عليكم لتأمين حمايتكم.
6- نظام (الغيتوات–المنعزلات) هذا ليس نظاما مصمما لعزل هذه الطائفة عن تلك أو هذه المنطقة عن تلك، كما أنه ليس مصمما لفصل هذا البلد العربي عن ذاك، فهذه أهداف صغيرة للغاية لا تثير اهتمام الأميركيين وفضولهم.
والحقيقة البينة أنه على الأقل في هذه المرحلة من البناء، مصمم لغرض إنشاء منعزلات محلية على مستوى كل قرية ومنطقة وشارع وحي سكني؛ قابلة لأن تغلق مستقبلا بواسطة بوابات إلكترونية ويتحكم فيها بوليس دولي يعمل تحت غطاء الأمم المتحدة.
وذلك ما يتطلب منذ الآن تقبل السكان لفكرة حمل بطاقات تعريف جديدة تؤمن لهم الدخول والخروج من شارعهم أو حيهم السكني. وفي مرحلة تالية من تطور بناء الجدار سوف يُرغم السكان في العراق ثم تاليا في كل بلد عربي على استعمال بطاقات إلكترونية ممُغنطة ومُبرمجة تؤمن لهم فقط حق الخروج صباحا والعودة إلى منازلهم داخل السور في ساعات المساء.
إنه عالم جديد يتحول فيه البشر إلى آلات مُستعبدة تحركها أوامر صادرة إلكترونيا.
هل تتذكرون جملة "الأميركيون سوف ينتحرون عند أسوار بغداد؟" التي أطلقها الرئيس الراحل صدام حسين أثناء الغزو الأميركي للعراق، وتوعد فيها قوات الغزو بمواجهة مصير محتوم هو الانتحار؟
لم تكن هناك أسوار في بغداد قط لا أثناء الحرب ولا قبلها. فهل كان الرئيس الراحل عندما وقف ليقول لشعبه إن الغزاة سينتحرون على أسوار عاصمتهم يتخيل مجرد تخيل أن معركته الأخيرة سوف تُخاض عند "بوابات" وهمية وأسوارِ لا وجود لها؟ أم أنه كان يتوقع قيام الأميركيين ببناء أسوار من هذا النوع، وأنهم سوف يواجهون تحت حجارتها العملاقة مصيرهم المحتوم؟
إذا لم يكن الأمر كذلك وهو لا يتعدى نطاق المصادفة وحدها، فهل يحق لنا التساؤل عن مغزى هذه المصادفة؟ ولماذا تخيل أصلا أن في بغداد أسوارا عملاقة سينتحر تحت حجارتها جنود يائسون من اقتحام "القلعة"؟
القليلون فقط، ربما يتذكرون هذه الجملة، وقلة منهم سيخطر لها أن تربط بين سور الأعظمية العظيم وأسوار بغداد؟ في كل الأحوال لن يكترث أحد لا بالأمس ولا اليوم بهذه النبوءة حتى لو صحت. ولكن الجميع مع ذلك سيشعر بالفزع من فكرة تحققها.
لقد انصرفت أنظار بعض المحللين أثناء الغزو إلى أن المقصود منها الإشارة إلى بوابات بغداد القديمة. بيد أن كل ما يتذكره العراقيون عن "أسوار وبوابات بغداد" التاريخية (الأثرية) لا يكاد يتجاوز المعلومات المدرسية الشائعة لأن هذه الأبواب صارت أثرا بعد عين ولم يبق منها شيء يُذكر.
بعض العسكريين العراقيين مثلا (وبعض العرب كذلك) وفي إطار تفسير النبوءة، ارتأوا –آنذاك- أن المقصود من إطلاقها الإشارة إلى مداخل بغداد العسكرية، وأن هذه المداخل ستكون على نحو ما أشبه بالبوابات التي سوف يقتل أو يموت عند أسوارها كل من يجرب اقتحامها؟
لكن ومع دخول الاحتلال عامه الخامس، وبينما يتصاعد الجدل داخل الولايات المتحدة الأميركية حول موعد الانسحاب نهائيا من هذا البلد التعيس؛ فإن على العراقيين ومهما كان رأيهم بنبوءة صدام حسين أو موقفهم من فترة حكمه، التفكير جماعيا بخلاصهم من كابوس العيش داخل "غيتوات" لها بوابات ألكترونية رهيبة سوف يتحكم فيها اليوم جنود؛ وفي المستقبل ستحكم بها من "وراء السور" حراس آليون، من ذاك النوع الذي تخيله مؤلف رواية 1984.
إنه نوع جديد من "الحكام" ونوع جديد من الحراس لأجل نوع جديد من العبيد
0 Comments:
Post a Comment
<< Home