نجيب يونس
أربعينية رحيل الفنان
نجيب يونس
صاحب الريشة الواقعية
بين الرؤية والتعبير
د. سيّار الجَميل
د. سيّار الجَميل
مدينة يرحل عنها ابناؤها العمالقة
قبل اربعين يوما مضت خبا سراج فنان عراقي اصيل في مدينة الموصل التي ودعته بمزيد من الحزن والاسى ، وهي توّدع واحدا من ابنائها البررة الذين قدّموا للعراق اروع الاعمال وأثروا المشروع النهضوي بالابداعات المؤثرة .. لقد ودّعت ام الربيعين الصديق الفنان الرائد نجيب يونس وهي تّودع جيلا من اسمى اجيالها الذين رفدت بهم كل منطلقات التقدم العراقي على مدى مائة سنة من حياتها .. ولقد كان نبأ رحيل الصديق الفنان التشكيلي العراقي الكبير الاستاذ نجيب يونس آل شريف بك قد أبكى الكثيرين ممن عرفوا قيمته التاريخية على امتداد اكثر من نصف قرن مضى .. لقد كنت قد وعدت القراء الكرام في نبأ النعي انني سأزودهم بما اعرفه عن تاريخه الفني الحافل بالانجازات والإبداعات ، وما تزخر به سيرته الفنية الطويلة لستين سنة مضت من حياتنا ..
لقد رحل الرجل الجمعة 8 حزيران / يونيو 2007 ، وهو يشهد ذبول مدينته التي خبا وهجها واسودت اجواؤها واظلمت نهاراتها .. رحل وهو يشهد انقباض تلك الروح المدينية الرائعة وبؤس الناس واختفاء الربيعين .. ونحن نستذكر كل من سبقه او ينتظر من بقايا اجيال رائعة كان لها آثارها وروائعها .. رحل الصديق نجيب مخلفا من ورائه اروع الاعمال التي ستخّلد ذكراه على المدى ولعل الرجل قد امتاز عن غيره بريشته التي كان يتنّقل بها من الرؤية الى التعبير .. وكان يترجم الطبيعة الساحرة او يحدد مراكز الرؤية ضمن اشكال يعجز غيره عن أدائها .. انني اذ اكتب للعالم عن الصديق العزيز الاستاذ نجيب يونس هذه " الفصلة " من التسجيلات ، لا يسعني الا اقدم خالص العزاء لاسرته الكريمة في مدينة الموصل ، ولكل اصدقائه ومحبيه في هذا العالم .
وقفة عند حياة نجيب يونس
ولد نجيب في اسرة معروفة وقديمة بالموصل من آل شريف بك التي لها تاريخها المحلي والتي برز فيها بعض الادباء والعلماء ، ولد في العام (1930) .. درس في مدارس الموصل ثم سافر الى القاهرة وحصل على الدبلوم العالي عام 1954 ، وعاد الى الموصل وكان من ابرز ابداعاته الاولى ان رسم لوحة كبرى لبمنى محاكم استئناف الموصل بطلب من رئيسها الشهير ابراهيم الواعظ رحمه الله . وغدا عضوا في جمعية الفنانين العراقيين وساهم في معارضها منذ تاسيسها عام 1956.لقد اقام معرضه الشخصي الاول في الموصل عام 1961 والثاني عام 1965. وساهم في المعارض التي اقيمت داخل العراق وخارجه ، ومنها معرض المنصور 1955 ، ومعرض جمعية التشكيليين العراقيين 1956 ــ 1957 ــ 1958 ، ومعرض فناني الموصل الاول عام 1963 ، وفي المعارض الفنية التشكيلية لجامعة الموصل ، وفي مجموعة المعارض المشتركة . وكان اول معرض شخصي له في العام 1958 بالموصل ، ثم معرض شخصي 1963 بالموصل أيضا ، ثم معرض شامل لاعماله الفنية و الذي ضم 250 لوحة في العام 1985 ببغداد المتحف الوطني للفن الحديث . أقام معرض شخصي له في العام 1985 في لندن ، ومعرض شخصي 1998 البحرين ، وثان له في البحرين 2001 ، وآخر في الامارات عام 2002 .. ونظم العديد من التجمعات و الدورات الفنية منذ عام 1954 و تخرج علي يده العديد من الفنانين العراقيين البارزين .
ومن أبرز خدماته تأسيسه لمرسم جامعة الموصل 1968 و الذي كان نواة لتأسيس متحف الجامعة حيث يضم العديد من لوحاته و التي يفخر بها الفن العراقي ، كما اسس قسمي الفنون التشكيلية (الرسم و السيراميك) و الخط و الزخرفة في معهد الفنون الجميلة في الموصل عام 1978 حيث كان رئيسا لهما لحين تقاعده . كان قد حصل علي شهادة تقديرية عام 1956 من معرض المنصور ، وحصل علي تكريم الدولة 1985. ونال شهادة تقديرية باعتباره احد اركان الحركة الفنية العراقية عام 1972 (جمعية التشكيليين العراقيين) ، ومنح وسام رواد الفن العراقي عام 1996 (وزارة الثقافة و الاعلام). وكان عضوا اصيلا في نقابة الفنانين العراقيين ، وعضوا اصيلا في جمعية التشكيليين العراقيين واحد مؤسسيها .. وكانت حصيلة حياته الفنية المئات من اعظم اللوحات الفنية التي تشهد بها اليوم العديد من الصالات .. لقد اشاد باعماله العديد من الكتاب والنقاد باعتباره احد ابرز الرواد في الحركة التشكيلية العراقية .. ولكن أتمنى على غيرهم ان يعيروا اهمية من نوع آخر لاعمال نجيب يونس الخلاقة .
سماته وشخصيته
هنا دعوني اسجل ما اعرفه عن الرجل ، اذ كانت له شخصية الاجتماعية والفنية معا .. كان انسانا مثقفا كما عهدته ويهوى العزلة ويعشق عمله عشقا غريبا .. كان يسمع كثيرا ولا يتكلم الا قليلا يحترم غيره ولا يتدخل بشأن لا يخصّه ، كان يقدّس الزمن وتراه يحافظ على كل دقائق زمنه .. كان انيقا جدا وكنت اعرفه بقبعته في الشتاء وبقبعة اخرى في الصيف .. يهوى اوقات الصباح ويعشق البيئة وهي تزهو بخضرة حشائشها او اصفرار اوراق الشجر او احمرار الشفق ..رأيته يوما يتأمل في خرير ماء دجلة عند صخور وهو يحاول ان يترجم الرؤية الى تعبير .. كان يعشق مرسمه ومن يدخل مرسمه سيجد فيه اشياء قديمة وسيجد الوانا فاقعة .. كان يهوى مدينته ويعشقها وسّماها لي يوما أنها مدينة الجمال .. كان يفرح من اعماقه بالطلب على لوحاته التي كانت تباع مباشرة من دون اي توقف ..
كما كان دائم السؤال عن اي حركة ينشئ منها عنوان لوحته ومضمونها ، فيسأل عن نوعها وتاريخها ، بل يتوغل في فلسفة الاشياء ! كان يهوى الزهور البرية منها والمزروعة .. كان يمتلك شخصية لها خصوصيتها بحيث لا يمكنك معرفة عالمها الداخلي ابدا .. كان هادئ الطبع ومسالم جدا ويتّرف باسلوب متمدن وله عاطفته القوية التي يترجمها وجدانه .. كان يتصوره البعض انه يتعالى عليهم ولكنني لم اجده الا انسان يدرك كم هو قيمته كبيرة في مجتمع منغلق .. كان منعزلا في مرسمه دوما ، ولم يتوان الرجل ان يقدم خدماته لم يطلب منه ذلك من الاصدقاء .. لا اعرف كيف كانت علاقاته مع بقية الفنانين التشكيليين ، لكنني ادرك تماما ان جميعهم كانوا يعتبرونه رائدا لهم ويجلونه ويحترمونه ، فهو استاذ الجميع .
دار حديث بينه وبيني بعد ان انفردنا عن بعض الاصدقاء في نهار يوم ربيعي مشمس ، ولا انسى حديثه الممتع عن قصة الالوان وتاريخ الرسم واللوحات العملاقة في كل من ايطاليا وفرنسا .. سألته عن المدارس الفنية في التشكيل العالمي .. لم تعجبه بعض الاعمال التي تشعوذت بها بعض المدارس الحديثة .. وجدته معني بفلسفة الالوان ، بل ويعرف ميول الشعوب وخصوصا ميل اي شعب من الشعوب الى لون او لونين محددين .. مما كان يدهشه بقاء الرسوم القديمة للانسان الكلاسيكي في العراق طوال هذه الالاف من السنين .. وكيفية الرسم على الفخاز .. كان يمتلك معرفة تاريخية قوية .. تعددّت اللقاءات مع الرجل واشهرها لقاء في المتحف الحضاري بالموصل وخروجنا الى حدائقه ونحن في مداولة فنية وتاريخية لا يمكنني نسيانها ابدا .
السمات الفنية
أثرى الفنان الكبير نجيب يونس نتاجه الفني الرائع تاريخ الفن العراقي المعاصر،وزينت لوحاته جدران المعارض المحلية والعالمية .. وكان مّعبرا تعبيرا اصيلا عن فضاءات مدينته الموصل ام الربيعين ، كما وكانت جمالياته العراقية تعّبر عن صدق لما في العراق من خصب في التاريخ والطبيعة . ويعد الرجل من ابرز وأهم رواد الحركة الفنية في العراق ابان القرن العشرين ، وهو من معاصري الفنانين فائق حسن ، وجواد سليم، ونوري الراوي ،وخالد الرحال ، وضرار القدو، وراكان دبدوب ومحمد غني حكمت وغيرهم من الذين اسهموا في تأسيس الحركة التشكيلية في العراق . ويعتبر نجيب يونس الرائد المؤسس للفن التشكيلي الحديث الذي تطور كثيرا في القرن العشرين ، وشارك في تطور الحركة التشكيلية في الموصل كل من الفنانين الكبار : ضرار القدّو ، راكان دبدوب ، هشام سيدان ، حازم الأطرقجي ، عبد الحميد الحيالي وغيرهم .
كان نجيب يونس فنانا بعيد الرؤية واسع التصور مستلهما من احداث التاريخ وملاحمه اعظم الصور التي يترجمها الى واقع .. فضلا عن هذا كله وذاك ، فقد كان يتنّقل في اجزاء من المجتمع ليحيل الواقع الى رسومات مؤثرة خصوصا ونحن نعلم بأن المجتمع في الموصل متنوع على غاية من التنوع والتعدد وتكثر فيه الصور والتباينات والرؤى والاشكال .. دعوني اتوقف قليلا عن نجيب يونس ذلك الانسان الفنان التشكيلي المثقف الذي ما نفصل يوما عن بيئته .. ونحن نتذكر في اربعينيته ذكرى واحد من الرواد التشكيليين العراقيين في القرن العشرين . وكنت قد نعيته الى العالم بعد سماعي مباشرة برحيله الابدي ، اذ كانت تجمعني واياه صداقة نقية ، وستبقى ذكرى الرجل مغروسة في الاعماق . اهتم نجيب يونس بتصوير اهم العادات والتقاليد الشعبية لمختلف النواحي الاجتماعية سواء في مجتمع المدينة ام في مجتمع اللواحق بها .. ورسم عدة لوحات عن المجتمع الريفي القروي ومنه نماذج من مسيحيين او الطائفة اليزيدية . واهتم كذلك اهتماما كبيرا بازياء النساء والاطفال والشيوخ الاكراد والاعراب واليزيدية فرسم العديد من اللوحات بنفس الاتجاه الانطباعي الذي صور فيه اسواق الموصل ومقاهيها وازقتها ومساجدها ومبانيها واطواقها وبيوتاتها وحاراتها واصناف المهن فيها .. كما رسم زهورها ومياهها وغاباتها واشجارها وحقولها ومراعيها .. كما واهتم بالانسان ببيئته المصلاوية التي تميزه في نشاطاته ومهنه واصناف حرفه المتنوعة .. ناهيكم عن واقعية الاشياء والصور كما يراه من دون اي رموز .. ان تصويره حركة الانسان يشكلّها بابدع ما يكون وخصوصا الدبكات والرقصات والجلسات .. الخ كنت اصف مرسمه بمتحف مدهش منذ ربع قرن ، ولكن وصفه احد الاخوة هذه الايام في كلمته عنه قائلا عن مرسمه بأنه : " تحول في العقدين الاخيرين إلى متحف للفن التشكيلي ، حيث ضم في زواياه وأروقته وجوها لشخصيات موصلية ومآثر شعبية وأزياء اقتربت بألوانها حد التطابق مع ماهي عليه في الواقع ، وبما امتازت به من الحركة، الاثارة، النبض، التوهج، الاندهاش، ثم سحر الألوان. التي برزت بها ريشة هذا الفنان الرائد " .
براعة نجيب : الواقعية والتاريخ
التفت نجيب يونس الى التاريخ ليستلهم منها اشهر الاحداث كي يترجمها الى اعمال فنية رائعة ويتركها يخلدها التاريخ من بعده .. ان من ابرز اعماله الفنية اللوحة الشهيرة عن بناء العاصمة الآشورية القديمة نينوى ومساحتها 4.5 x 3 م ، ويبرز فيها الملك الاشوري سنحاريب مع ثلة من حرسه في عربته الخاصة ، وهو يشرف اشرافا شخصيا على بناء سور عاصمته نينوى .. وقد أظهر الفنان نجيب في اللوحة الطراز المعماري للبناء وكذلك تتوضح طريقة معالجة النحت البارز واشكال النحوت النصبية. وقد حرص الفنان على اعتماد الازياء التقليدية للملك والحاشية ولعمال البناء كما هي كانت ابان عصرهم ، وطريقة سحب الحجر بواسطة اسرى الحرب والثيران مستعملين الزحافات الكبيرة ، وقد ظهرت في اللوحة كيف يُصعد الحجر الكبير الى اعلى عن طريق بناء هياكل خشبية . عندما كنت التقي بالرجل كان يسألني اسئلة تاريخية متنوعة ويركز في اسئلته على كل من الشكل والمضمون ، وكان اهتمامه بوصف الاشكال يفوق اهتمامه بالمضامين .. كان يسأل عن الالوان .. عن الاحجار .. عن البيئة القديمة .. عن الطقوس القديمة عن الازياء والوانها .. وغيرها من الاسئلة .
لقد اعتمد الفنان في معالجته لهذا الموضوع ، الواقعية التسجيلية في ضوء الوقائع التاريخية .. ولقد تبارى كل من الفنانين التشكيليين الكبيرين نجيب يونس والراحل ضرار القدو في تقديم اعمال فنية مدهشة عن تاريخ الموصل ، فلقد كانت لوحة نجيب يونس التي تحدثنها عنها تحفة فنية لا تقدر بثمن وتقابلها لوحة كبرى رسمها ضرار القدو عن حصار نادرشاه للموصل عام 1743 م ، وفيها تكنيك يشابه تكنيك نجيب يونس ، ولكن مع اختلاف في الموضوع والاحداث .. وكم كنت اتمنى على الراحل نجيب يونس ان يعتني برسم لوحة معبرة عن التاريخ الحديث .. ولا ادري ان ترك خلال السنوات الاخيرة اعمالا تاريخية ام لا !
اما التكنيكات الفنية فان الفنان نجيب يونس يستعين باستحضار كل مفردات العمل .. وقد وجدته بارعا في تجربته الفنية العريضة الممتدة زمانا طويلا ، وهو حريص في تكوين لوحاته الفنية الرائعة التي تتميز بخصوصيتها ، وهي تعتمد تكنيكا فنيا عالميا يتمثل بما تفرزه انشطة المخيلة وصقلها بالرؤية والمعلومة ، ثم تبدأ بقوة التخطيط والاستخدام السريع لرشاقة اللون وشفافيته وكنت قد شهدت واحدة من تجارب نجيب وهو يّفكر عميقا وهو يعمل .. وقال لي مرة بأنه لا يمكنه ان يمسك الفرشاة بيده ان لم تكن الصورة قد تكوّنت في باله وتفكيره .. ويتجسد عمق المعني في اللوحة . كان يهوى رسم الاشياء الجميلة التي يراها بام عينه ، او التي تزدحم من حوله .. كان واقعيا في كل الحركة .. انني اعتبره ذاكرة تشكيلية لواقع بيئة وتاريخ مدينة .. وتصوير طبيعة .. كان يجيد استخدام الالوان التي يصور من خلالها حياة الناس بشكل جذاب فرادى ام مجتمعين .. ساكنين ام راقصين .. كان فنانا في رسم الشخصيات الفرحة والكئيبة ، كان بالفعل يهز الاحاسيس بالزمن، ويستنبط الافكار والرؤى الجديدة بتأملية خارقة ..
وأخيرا : انه الرؤيوي المتميز
وعليه ، فان نجيب يونس باختصار فنان تشكيلي كبير ومبدع رؤيوي متميز ولكن مع كل الاسف لم تعطه لا الدولة ولا المجتمع حقه ، ولم يمنح الدعاية الكافية بحقه كما منحت للاخرين ولم تسلط عليه وعلي ابداعاته انوار كافية ولا اضواء اي سلطة من السلطات ، فبقي بعيدا عن الامجاد ، وهو مؤمن بقوة ريشته وروعة اعماله واصالة فنه حتى وان اهملته اضواء الدعاية من قبل الدولة والمجتمع معا . اتمنى ان يبقى اسمه خالدا وستبقى ذكرياته مغروسة في الاعماق .. متمنيا ان تكون مدرسته وتجاربه واعماله وافكاره وريشته سبلا رائعة للاجيال القادمة كي تتعلم منها ومن كل ما تضمنته من معاني عالم حضاري متقدم .
Labels: نجيب يونس
0 Comments:
Post a Comment
<< Home