Tuesday, May 15, 2007

القومية العربية بين النظرية والتطبيق
د. فؤاد الحاج
عرف عن المفكر الراحل قسطنطين زريق بأنه أحد الذين أغنوا الفكر العربي في نظرته إلى القومية العربية، وبأنه أثر على جيل بأكمله من السياسيين من مختلف أنحاء الوطن العربي الكبير ممن التقى بهم طلابا وأساتذة في الجامعة الأميركية في بيروت، أمثال جورج حبش ووديع حداد من فلسطين وهاني الهندي وجورج طعمة والدكتور الياس فرح من سوريا ونديم دمشقية من لبنان وحمد الفرحان من الأردن، والدكتور سعدون حمادي من العراق وغيرهم الكثير من المناضلين العرب الذين أيضا أثروا في غيرهم في سبيل نشر الوعي القومي العربي.
وقد كُتب لفكر قسطنطين زريق أن يشتبك بمخاض سياسي تاريخي كامل غطى قرنا بأكمله، فقد أصرّ قسطنطين زريق دائما على أن يلازم صفة المفكر والأستاذ، لكن فكره أو بعضا منه تحول إلى ملهم لمناضلين ومرشدين لحركات سياسية، أهمها (حركة القوميين العرب)، وقد أخذ هؤلاء اسمهم من تنظيم كان قد أسسه في الثلاثينات من القرن الماضي.
غير أن زريق الذي ربط القومية بالحداثة واعتبرها عملية تاريخية متكاملة، لم يرقه ما آلت إليه الحركة القومية العربية من شرذمة، حيث لم يتهم الأنظمة وردّ السبب إلى المجتمع نفسه!!. فمن المسؤول عن تردي الوضع القومي العربي؟.
لا نريد هنا أن نناقش نظريا فكر هذا المفكر القومي الذي طرح قضية القومية واعتبرها ظاهرة حديثة، ومن ثم وصلها بمشروع عربي مداه الحقيقي يتعدى إلى المستقبل، فهذا يحتاج إلى ندوات ومؤتمرات على مستوى الوطن العربي يشارك فيها كل من يعمل في مجال الفكر القومي العربي من المحيط إلى الخليج.. بل نريد أن نسلط الضوء على جانب واحد وأساسي في فكر قسطنطين زريق الذي ربط المصلحة الذاتية للفرد والمجتمع في مفهومه للقومية العربية.
وبعيداً عن خطاب الحماسة والكلمات الطنانة، فإننا نجد في فكر زريق بعض الحقائق عن الوضع الراهن لهذه الأمة المبتلية بحكام غير مثقفين ولا مطلعين على ماضي الأمة، وفي الوقت ذاته لا يوجد لديهم مخططات على الأقل مرحلية تفيد الوطن والموطن على الصعيدين الوطني والقومي، ولولا تدارك ووعي بعض القياديين القوميين ومنذ وقت مبكر من القرن الماضي وحتى يومنا الذين مازال شغلهم الشاغل العمل على إيجاد مكان لائق للأمة العربية ذات التراث الحضاري الغني والعميق بين أمم العالم، وللوطن العربي وأهميته في الماضي والحاضر والمستقبل من أجل بناء صرح الحضارة الإنسانية للبشرية كلها على أسس تخدم قضايا السلم والأمن والتقدم والتعاون المتكافىء بين الشعوب.
وقد نتج عن هذا الفكر عدة محاولات لتحقيق الذات الاقتصادية العربية أولا ومنها ما تم تأسيسه في بداية عام 1989 وهو (مجلس التعاون العربي) الذي ضم العراق، الأردن، اليمن ومصر، الذي انتهى مع بدء العدوان الثلاثيني الغادر على العراق عام 1991، ليس فقط بسبب العدوان الأمريكي الأطلسي العربي الرسمي آنذاك بل بسبب أن إحدى دول هذا المجلس تعاونت مع أعداء الإنسانية وأرسلت جيشها ليقاتل إلى جانب قوات العدوان الأمريكي الأطلسي، ومن ثم كانت هناك محاولات أخرى ليبية على صعيد دول المغرب العربي ولكنها لم تسفر عن نتائج إلى أن تم مؤخراً وبقرار ليبي تشكيل الاتحاد الإفريقي الذي ليس له علاقة بالدول العربية كما قال الزعيم الليبي معمر القذافي في أكثر من تصريح له، وعلى الرغم من ذلك نتمنى أن يسفر عن تعاون وتكامل سياسي واقتصادي وعسكري دون أي تدخل خارجي، مع العلم أن هناك ملاحظات عديدة بدأت تبرز في الأفق، خاصة وأن أعداء الإنسانية لا ولن يستكينوا أو يهدأوا حتى يوقعوا بين دول هذا الاتحاد، فزيارات بوش وقبله باول ورايس تنبىء على أنهم يحفرون لهذا الاتحاد كي لا يكتمل تحقيق ذاته، أما (المجلس الخليجي) فحدث ولا حرج لأنه لم يحقق أي تعاون لا اقتصادي ولا سياسي ولا عسكري بسبب ارتهانه للغرب ولأعداء الإنسانية.
لذلك ومن منطلق قومي عربي راسخ يجمع بين الوطنية والقومية، نتمنى على المخلصين والشرفاء من الباحثين والاقتصاديين العرب العمل تحقيق السوق العربية المشتركة كما فعلت قيادة العراق الوطنية والقومية عندما وضعت اتفاقيات الأسواق الحرة بين ثمانية دول عربية موضع التنفيذ العملي وباشرت في تنفيذها، ومنها تلك الدولة التي وقفت مع أعداء الأمة وشاركت في تدمير العراق بأشكال مختلفة، وكذلك سوريا التي وصل معدل التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي إلى مليارات الدولارات خلال عدة سنوات حتى قبيل العدوان والغزو والاحتلال، وعندما كانت تقصر إحدى الدول الأعضاء كان قيادة العراق تبادر من أجل تسريع العمل وعدم التهاون فيما فيه مصلحة مشتركة للأمة، ولا نقصد بتحقيق السوق العربية المشتركة دفعة واحدة بين دول تلك الجامعة المهترئة، بل بين بلدين على أقل تقدير لتكون بداية انطلاقة لتجمع بالتدريج باقي الدول العربية وصولاً إلى تحقيق السوق العربية المشتركة، لأنه من نظرة بديهية أولية لكل عاقل يجد بأن المصلحة الذاتية لكل دولة عربية على الصعيد الاقتصادي تتطلب العمل الفعلي على تحقيق السوق العربية المشتركة، وبذلك نكون فعلاً أوفياء لعروبتنا ولأمتنا التي تنتظر بروز قيادة وطنية وقومية تعمل من أجل الأمة والوطن والأجيال.
ومع أننا دائماً نسمع خطابات متروّية غير مأخوذة بإلحاح النفس الجريحة ولا دوي الكلام المفارق، كما نطالع (خطاباً تاريخياً) يزن الظرف والإمكانات والقدرات الذاتية والواقع، بل يزن الأمور بمقياس المصلحة والإمكانات لا باللهفة والوجدان فحسب، ولكن يبقى ذلك الخطاب حبراً على ورق ما لم تقوم قيادة وطنية قومية للعمل على تحقيقه كما فعلت قيادة العراق الوطنية القومية التي تآمرت عليها قوى الشر والبغي والعدوان بالتعاون مع أنظمة عربية اللسان أعجمية، وأسقطتها بالتعاون مع طاغوت الشر الصهيو-أمريكي-الإيراني عام 2003، ولم يبق هناك من أمل سوى ببروز قيادة وطنية قومية جديدة تعيد للمواطن كرامته وللوطن عزته.
ومن قرأ كتاب (الوعي القومي) لقسطنطين زريق الذي صدر عن دار المكشوف في بيروت عام 1940، لا بد أن يتساءل هل أن مفهوم القومية العربية علمياً ونظرياً وبين النظرية والتطبيق سينتهي برحيل الرعيل الأول من واضعي هذه النظرية؟..
الواقع يقول طالما أن هناك مؤمنين بأن العروبة هي القاسم المشترك والدافع الأساسي الذي يحدو كل العرب وفي كافة أقطارهم إلى النهوض من الرقاد إلى التوحد، على أسس واضحة ومعروفة للجميع وأهمها اليوم هي المصالح المشتركة للوقوف في وجه التيارات العالمية والمحلية في البلاد العربية المعادية للعرب وللعروبة، مما يدعو من جديد إلى التفكير في العمل من أجل صب كافة الآراء والأفكار لكافة المفكرين العرب الراحلين والمحدثين منهم، في قالب قومي عربي يضمن صيانة الوطن بحدوده وتخومه، والوطن الكبير الشامل بكافة العوامل المشتركة فيما بين أبناء البلاد العربية، لأنه ثبت على الأقل نظرياً بأن القومية بمفهومها الشامل تعني حب الوطن الصغير والانفتاح العام على الوطن الكبير بجميع أقطاره، بالرغم من أن البعض قد يرى أن هناك نقيضاً بين الوطنية والقومية، ولكن الواقع والتجارب أثبتت بأن الأمة والقومية هي الوعاء الشامل لكل البلاد العربية، وأن الولاء للأمة لا ينقض الولاء للوطن بحدوده وتخومه المصطنعة، وإلا لما استفرد أعداء الإنسانية بكل الأقطار العربية التي خرجت عن مفهوم ومعنى القومية العربية الفعلي إن في الجزيرة العربية أو في الخليج العربي أو في شمال أفريقيا، وفي الوقت ذاته لو أن القيادات العربية التي حسبت نفسها أو بمعنى أوضح فرضت نفسها على العروبة والقومية والوطنية لما ضاعت فلسطين ولما كان للكيان الصهيوني اليوم وجود، الذي حارب ويحارب أي فكر توحيدي للبلاد العربية وبكافة الوسائل والمغريات!!.. ولما بقي العراق العربي تحت الحصار الجائر الذي فرضته قوى الشر وأعداء الإنسانية طيلة أكثر من اثني عشرة عاماً، ولما تعرّض للغزو والاحتلال بقيادة إدارة الشر الأميركية خدمة لمصالحهم أعداء الإنسانية تحت مسميات (العولمة) أو (النظام العالمي الجديد)!!.
فهل يتدارك القوميون العرب في كل البلاد العربية ذلك؟!!.. وهل يتدارك كل الذين تأثروا بروح القومية العربية وعملوا من أجلها الخطر الكبير الذي أصاب البلاد العربية من المحيط إلى الخليج ويعودوا للعمل مع الجماهير من جديد من أجل مصالح الشعب العربي في كل أقطاره؟.. وهل يعي الاقتصاديون العرب أن مصالحهم المشتركة في الوطن العربي مهددة بخطر الزوال؟!.
لا بد أن يكون الحديث في هذا الصدد موسعاً وشاملاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن لا بد من وقفة مراجعة ذاتية ونقد بنّاء من أجل وحدة الكلمة التي تبدأ منها وحدة النضال، على الرغم مما نشهده من نضال يومي ومستمر في كافة الأقطار العربية عبر المؤتمرات والندوات والأمسيات واللقاءات بين عناصر مؤمنة بوحدة الأمة ووحدة المصير، لأنه إذا لم يبدأ الجميع وبشكل حاسم بفضح ركائز المستعمرين الجدد من زعامات وقيادات وأنظمة قبلت بالمساومات والتسويات على حساب الوطن والمواطن والأمة بشكل عام، والعودة إلى أصالة الفكر القومي العربي والروح الوطنية الأصيلة التي تعبّر عن صميم قضايا ومشاكل الأمة والإيمان بحقها في الحرية والاستقلال بالتعاون مع كل الخيرين والمفكرين من رواد القومية والنهضة العربية الأحياء منهم، ومنهم الدكتور الياس فرح وغيره العشرات في كافة الأقطار العربية وفي بلاد المهاجر، وفي الوقت نفسه الاستنارة بفكر الرواد الأوائل من خلال كتباتهم ومنهم مؤسس البعث العرب الراحل الأستاذ ميشيل عفلق الذي قال "لم يكن التصور القومي للبعث منفصلاً عن الصلة الحية بالتراث الروحي والحضاري للأمة العربية، فإلى جانب العلاقة الموضوعية بين العروبة والإسلام، التي كانت إحدى الركائز الأساسية التي عليها فكر البعث، قامت علاقة ذاتية وجدانية مصيرية، بين البعث والإسلام، نبعت من مصدر أساسي، ومنطلق مكمل للمنطق القومي، هو حب الشعب والأمة، كما أنها جاءت نتيجة للتصميم على الاضطلاع بالمسؤولية القومية"، من هذا المنطلق لا بد من العمل الفعلي على تجسيد النضال القومي الشعبي الوحدوي الديمقراطي الذي يشكّل التطلع إليه والإحساس به هاجساً يحرّك ضمير الأمة ويستنفر عقول وضمائر المفكرين والمناضلين من أبنائها، وبذلك نكون قد حققنا ونقلنا عملياً التجربة القومية من النظرية إلى التطبيق.

Labels:

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

  

Webster's Online Dictionary
with Multilingual Thesaurus Translation

     

  English      Non-English
eXTReMe Tracker