من المسؤول عن مجزرة علماء العراق؟
ثلاثة أيام مضت ما بين اختطاف الدكتور علي مهاوش، عميد كلية الهندسة في الجامعة المستنصرية والعثور على جثته. كم عدد الأيام التي قضاها في الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية، وحتى الدكتوراه، وحصوله على لقب أستاذ ومنصب عميد؟ التقيت به آخر مرة في مؤتمر دولي لمساعدة علماء العراق عُقد في العاصمة الأردنية عمّان في سبتمبر الماضي. كان يجيب على أسئلة مراسل المجلة العلمية الأميركية "ساينس" Science عن تأثير عمليات الاختطاف والاغتيال على الحياة الجامعية. تحدّث بشكل مقتضب عن أجواء العنف والتهديد، التي يعاني منها أعضاء الهيئة التدريسية، وقال إنه وأساتذة آخرون تلقوا رسائل تحتوي على رصاصات، قدّم على إثرها خمسة من أساتذة الكلية طلبات لإجازات بحثية طويلة خارج العراق. سأله مراسل "ساينس" من المسؤول، برأيه عن قتل علماء العراق؟ قال، بلغة إنجليزية بريطانية، وابتسامة دمثة: لا أحد يعرف. وما أن ابتعد المراسل عنا حتى التفت الدكتور مهاوش نحوي، وتساءل باللهجة العراقية: يعني شنكول؟ نكول أنتو دتكتلونا؟! (يعني ماذا نقول؟ هل نقول أنتم تقتلوننا؟!).
والعالم العراقي الراحل يعرف ما يقول. فهو، وزوجته نضال عباس خضير من آخر المبتعثين للدراسة في بريطانيا قبل فرض الحظر على العراق عام 1990. درس كلاهما الهندسة المدنية في جامعة ويلز، وحصلت هي على الماجستير، وهو على الدكتوراه، وانغمر الزوجان حال عودتهما في البحث العلمي والنشاط الأكاديمي. ورغم الحظر القاسي الطويل، الذي استهدف علماء العراق، نشط الدكتور مهاوش في البحث والتدريس، وتقديم الاستشارات الهندسية، وأسّس قسم هندسة المواد في الجامعة المستنصرية، ورئس تحرير المجلة العلمية "الهندسة والتنمية". وتشكل جريمة اغتياله آخر محاولات تدمير القدرة العلمية الهندسية للعراق. فهو عالم ومهندس، والعلماء، كما يُقال يفسرون الموجود، والمهندسون يخترعون أشياء لم يكن لها وجود. وفي مؤتمر عمّان، الذي حضرته شركات ومنظمات استثمارية دولية، وساهم فيه مستشار العلوم والتكنولوجيا لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس عرض الدكتور مهاوش مشروعين هندسيين استراتيجيين، يُطوّر أحدهما خرسانة فائقة النوعية والمتانة، وينشئ الثاني "المدّونة الوطنية العراقية للخرسانة".
اغتيال عالم مهندس ومئات من زملائه "مكيدة شريرة الأهداف، لم يحدث مثيل لها قطعاً في العراق قبل أبريل عام 2003، ولا تدل مؤشرات عمليات الاغتيال على أنها تستهدف أي اتجاه طائفي أو ديني. الاتجاه الوحيد السائد فيها هو أن العرب يشكلون الأغلبية المطلقة للضحايا". هذه هي استنتاجات أول دراسة إحصائية لمجزرة علماء وأطباء ومهندسي العراق. أعدّ الدراسة بالإنجليزية الطبيب الاستشاري العراقي إسماعيل الجليلي، وعُرضت في "المؤتمر الدولي حول اغتيال الأكاديميين العراقيين"، الذي عُقد في العاصمة الإسبانية مدريد نهاية الشهر الماضي. كشفت الدراسة أن الدكتور مهاوش رابع عميد يُغتال في الجامعة المستنصرية، حيث اغتيل قبله عمداء كليات الطب والتربية، والقانون، إضافة إلى معاوني عمداء كلية العلوم، وكلية الإدارة والاقتصاد، ورؤساء أقسام اللغة الألمانية والتربية ودراسات العالم العربي. تنتمي هذه النخبة الأكاديمية الرفيعة إلى جميع الطوائف والأديان في العراق.
وتضم قائمة القتلى أسماء أكثر من 200 عالم وأكاديمي، لكن العدد الحقيقي قد يكون أكبر من ذلك. فكثير من أسر الضحايا يخفون مصابهم، ولا يبلغون سلطات الأمن، لشكهم بضلوعها في الاغتيالات. وأخبرني الدكتور الجليلي أن طبيباً نجا أخيراً من عملية اختطاف حدثه عن جريمة اغتيال لم يُعلن عنها، قضت على حياة شقيقين طبيبين في مستشفى الكرامة، أحدهما كاظم عبود ويجهل اسم الآخر. وقال الجليلي إنه يقوم بتحديث قوائم الضحايا يومياً، حيث أضيف أخيراً اغتيال الدكتورة وداد الشمّري، وابنتها (8 سنوات) يوم الجمعة الماضي، واغتيل في اليوم نفسه الدكتور خلف الجميلي، أستاذ القوانين الإسلامية في جامعة بغداد. وقلّما يُعلن عن أسماء مرافقين للعلماء، أو أفراد أسرهم، الذين قتلوا أو جرحوا خلال محاولات اغتيالهم، كما حدث للدكتور كاظم الصميدعي، أستاذ التقانة الحيوية، الذي اغتيل ولده، وهو مهندس حاسبات. ولا تتوفر معلومات عن علماء نجوا من الموت، لكنهم أصيبوا بجروح بالغة خلال محاولات اغتيالهم.
ويظهر من هذه الإحصائيات أن اغتيال علماء العراق جزء من استراتيجية "الفوضى المنظمة" التي اتّبعها الاحتلال منذ الغزو لتطويع العراقيين وإخضاعهم. "فوضى" فائقة التنظيم تُصوّر الغزاة العتاة، كسُذج مغلوبين على أمرهم، أو أغبياء عاجزين عن وقف استباحة قصور الدولة العراقية ومنشآتها الحكومية ومصارفها وجامعاتها ومصانعها ومراكزها الهندسية العسكرية، ومتاحفها، ومكتباتها، وكنوزها التراثية. "فوضى" مُستدامة، كرسوم الغرافيك العشوائية بالكومبيوتر، تتغذى ذاتياً على هدر موارد العراقيين المالية الهائلة، وفساد لم يسبقه مثيل، ورشوات جماعية بمشاريع خدّاعة، كالانتخابات، والمحاصصة الطائفية، والحكم الفيدرالي. "فوضى" مُحكمة، كالظواهر الفيزيائية، هدفها الرئيسي، كما برهنت الانتخابات الأخيرة، زرع الفتنة، وتحطيم الوحدة الوطنية، وهدم كيان الدولة، فيما يستمر بناء أكبر سفارة أميركية في بغداد، وإنشاء شبكة من 14 قاعدة عسكرية في جميع أرجاء العراق.
وليس عبثاً أن تستهدف المجزرة الجامعات التي تُعتبر في العراق، كما في جميع بلدان العالم، مراكز النشاط والحراك الثقافي والسياسي. ويدل تحليل الجليلي للإحصائيات التي أعدتها "رابطة التدريسيين الجامعيين" في بغداد أن 80 في المئة من عمليات الاغتيال استهدف العاملين في الجامعات، ويحمل أكثر من نصف القتلى لقب أستاذ وأستاذ مساعد، وأكثر من نصف الاغتيالات وقعت في جامعة بغداد، تلتها البصرة، ثم الموصل، والجامعة المستنصرية. و62 في المئة من العلماء المغتالين يحملون شهادات الدكتوراه، وثلثهم مختص بالعلوم والطب، و17 في المئة منهم أطباء ممارسون، وقد قُتل ثلاثة أرباع العلماء، الذين تعرضوا لمحاولات الاغتيال.
هذا القتل "المضبوط" يؤكد قناعة الدكتور الجليلي، والمراقبين العالميين بأن عمليات الاغتيال والاختطاف تتبع النمط المعروف باسم "مجزرة السلفادور" ، وهي في الواقع سلسلة مجازر أشرفت على تنفيذها وكالة المخابرات المركزية الأميركية في بلدان عدة في أميركا اللاتينية.
وأدان مؤتمر مدريد بيانات احتجاج على الاغتيالات صدرت أخيراً عن جهات وأشخاص تعاونوا مع الاحتلال. وقارن عالم عراقي من جامعة بغداد هذه البيانات التي تخلو من أي ذكر للاحتلال بسلوك طائفة تقدس الشيطان خشية منه، وتتجنب حتى الكلمات التي تحتوي على حرف "الشين"!
جريمة الاحتلال أمّ الجرائم، والجرائم غبية ومهزومة في الصراع مع غريزة البقاء الذكية التي مكّنت البشر والمجتمعات الإنسانية من الاستمرار والتطور والازدهار. وقد برهن العراقيون منذ فجر التاريخ أنهم أبطال المهمات الإنسانية الصعبة، يتلألأون، إذ تخور قوى الآخرين، وما تمذهبهم شيعة، أو سُنة، أو نصارى، أو صابئة، أو يزيديين، سوى التعبير عن عبقرية غريزة البقاء، أو ما يُسمى بلغة السياسة "الجيوبولتيك".
0 Comments:
Post a Comment
<< Home