طارق عزيز... عزيزاًَ
طارق عزيز... عزيزاًَ
معن بشور
7/3/2007
بين أكاذيب الحرب الأمريكية على العراق، أو حرب الأكاذيب الأمريكية (لا فرق)، كانت تخرج، من حين لآخر، أكذوبة، معروفة المصدر والأهداف، لا تخلو من إيحاءات طائفية ذميمة، تقول أن طارق عزيز (عضو القيادة القومية لحزب البعث، ونائب رئيس مجلس الوزراء العراقي) قد أنهار في السجن وقد أدلى "باعترافات" ضد رئيسه ورفاقه.
ورغم محاولات النفي المتكررة التي كان محامي طارق عزيز السيد بديع عارف يطلقها، ورغم ظهور عزيز نفسه متماسكاً صلباً كشاهد - بلباس النوم – خلال إحدى جلسات المحاكمة بقضية الدجيل التي أعدم بموجبها الرئيس صدام حسين، إلا أن هذه الإشاعة – الأكذوبة بقيت تطل علينا بعد ذلك بين الفينة والأخرى في بعض وسائل الإعلام حتى كان ظهوره الأخير، كشاهد ايضاً، أمام المحكمة في قضية الأنفال... فوضع حداً لكل الأقاويل، واثبت انه كسائر رفاقه، عزيز النفس، طارقاً أبواب الحرية، صلب المبدأ، قوي الشكيمة، لا يخاف – وهو ذو القلب المتعب والجسم المثخن بالامراض - الأحكام مهما قست، بل يعَجل فيها من خلال وقفته الشجاعة هذه أمام المحاكمة.
وقفة طارق عزيز أمام المحكمة اللاشرعية واللاقانونية تعيد إلى الأذهان وقفة أخرى كانت له في مطلع عام 1991 في جنيف حيث التقى وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك جيمس بيكر (احد رئيسي لجنة دراسة أوضاع العراق والتي دعت في تقريرها الشهير المعروف بتقرير هاملتون – بيكر إلى مراجعة جذرية للإستراتيجية الأمريكية المعتمدة في العراق والمنطقة)، في محاولة أخيرة لمنع الحرب الأمريكية الأولى على العراق والتي بات واضحاً اليوم أن هدفها الحقيقي كان احتلال العراق وتدميره ووضع اليد، بشكل كامل، على موارد المنطقة النفطية.
بعد الاجتماع، وقف الرجلان أمام الإعلام يتناظران حول الأزمة الناشئة آنذاك أمام عالم محبوس الأنفاس، يحاول استكشاف المصير الذي ستؤول إليه تلك الأزمة. حرباً أم تسوية، فظهر للجميع، مؤيدين لعزيز أو معارضين له، قدرة ممثل العراق آنذاك على أن يجمع بين هذا القدر من الرصانة السياسية والشجاعة الأدبية، وبين هذا المستوى العالي من اللغة الدبلوماسية وذاك القدر المتميَز الصلابة المبدئية، حتى قيل يومها أن الهزيمة الإعلامية المدّوية لوزير خارجية الدولة الأقوى في العام أمام وزير خارجية العراق قد ساهمت في التعجيل بالحرب العسكرية التي وعد بها المسؤولون الأمريكيون يومها بان تعيد العراق- الفتي الغني القوي آنذاك- إلى العصور الوسطى.
يومها كما اليوم، شعر كل عربي، أيَاً كان موقفه من النظام الذي كان عزيز من ابرز أركانه، بشيء من الاعتزاز بأنه ما زال هناك مكان للكرامة في مهرجان الذل الرسمي العربي المديد، وما زال هناك موقع للكفاءة الدبلوماسية الرفيعة في زمن الانحطاط المهني والأخلاقي المتمادي الذي يلف العديد من المسؤولين العرب، وما زالت هناك لحظة للشجاعة النادرة في عصر الجبن والعجز والتواطؤ المهيمن على مجمل الواقع الرسمي العربي.
وتبرز في ذلك كله مفارقة تستحق الاهتمام، إذ كيف يكون العراق بأسره مفتوحاً على كل هذه المحاولات الرامية إلى تمزيقه عرقياً وطائفياً ومذهبياً، فيما سجون الاحتلال تغلق أبوابها، وخصوصا مطار بغداد بالذات، على مجموعة من رجال العراق ونسائه المتحدرين من كل مناطق العراق وبيئاته العرقية والدينية والمذهبية يتسابقون على الاستخفاف بالاحتلال والاستهتار بأساليبه والازدراء بإدارته.
ويبقى، السؤال هنا، أي مبادئ وأفكار تستطيع أن تجمع هؤلاء كل هذه المدة، لا فرق بين أيام النضال السري، وعقود الحكم والسلطة، وسنوات السجن الأمريكي المستمرة، وأي إيمان يمنحهم كل هذه الصلابة. فهل نحن معهم أمام بقايا ماض لعراق موحد عزيز منيع يقاوم حاضراً محاصراً بالاحتلال والفتنة ليحول دون غدٍ مثقل بالتقسيم والتفتيت والحروب الأهلية؟ أم نحن أمام طلائع عراق عربي جديد يولد من رحم مقاومة أبنائه الباسلة، محولاً من خلالها آلام مخاض الاحتلال والفتنة إلى إرهاصات الحلم الذي يستعيد فيه العراق وحدة أرضه وشعبه، وعروبة هويته، ويحافظ على ثرواته وموارده وتراثه الحضاري العريق، وينجز مصالحة وطنية تدفن الثارات والصراعات العبثية ويبني تعددية نظامه السياسي المستفيد من كل أخطاء الماضي وتجاربه.
أسئلة يطرحها علينا اليوم صمود طارق عزيز وشجاعته، كما يطرحها استعداد طه ياسين رمضان لتنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه عن محكمة تمييز يفترض ان تنقض حكماً لصالح المحكوم، أو تصادق عليه، ولكن لم نسمع بمحكمة تمييز أو استئناف أعادت النظر بحكم قضائي لتصدر حكماً اشد قسوة .
فإلى متى يبقى العراق مسرحاً دموياً لقتل يومي، سواء في ساحاته العامة أم في سجونه المغلقة، في أسواقه الشعبية أم في مواكبه الدينية،
الم يقولوا لنا أنهم جاءوا إلى العراق لكي "ينقذوه" من معاناته....
أنها الكذبة الأمريكية الأكبر... في زمن أكاذيب الحرب الأمريكية... أو حرب الأكاذيب الأمريكية لا فرق.
وتبقى أهمية شهادة طارق عزيز الشجاعة تذكرنا بصرخة ذاك الطفل الذي رأى مليكه عارياً فصرخ معلناً هذه الحقيقة وسط أهازيج المنافقين وطبولهم وهتافاتهم التي كانت ترى في "عري" الملك افخر أنواع الملابس وأكثرها أناقة.
Labels: Tariq Aziz: By Maan Mashour
0 Comments:
Post a Comment
<< Home