Wednesday, May 24, 2006

فلسطين: حرب شرائح الطبقة.. الجزأ الثاني.. للدكتور عادل سمارة

الطوائف "الطبقات"

فلسطين: حرب شرائح الطبقة

الجزء الثأني

د. عادل سمارة

القطرية: من إسقاط السيادة إلى حرب الطوائف

من بين ما أتت به العولمة تجنيد وتحريك الموجة القومية الثالثة في العالم، وهذه المرة موجة القوميات الإثنية العميلة في المحيط. فبين تفكيك السيادة، وتعميق حكم الكمبرادور بإشراك رأس المال الخاص الكمبرادوري مع النخب السياسية، وتصدي الإسلام السياسي الجهادي كقوة مقأومة، واستحكام الأزمة الاقتصادية، وخروج المركز بمشاريع تفكيكية للوطن العربي تحت شعار مشروع واسع هو الشرق الأوسط الكبير، بين هذه كلها، يتم تفكيك كل قطرية عربية من داخلها. رفع سايكس-بيكو إلى التفكيك والتذرير، كل قطر من داخله. أما الأنظمة الحاكمة في هذه القطريات، وقد أتى بها وحماها الأجنبي، فلا تملك إلا أن تقول له وهو يفككها: "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني أن شاء الله من الصالحين".

إنما، كيف، وبأية آلية يتم هذا؟

آلية حرب الطوائف. فلا بد من منازعات واشتباكات وخلق محتجين، ووضع إمكانات في أيديهم كي يمولوا ميليشيات لهم لينفذوا البرنامج الذي يصوغوه مع الأجنبي. وهنا يمكن توظيف تراث منظمات "الأنجزة" فيما يخص كيفية التقرُّب من الأجنبي، وصياغة ما يريده في "بروبوزال" يبدو محلياً. لا بد لهؤلاء الطائفيين والزعماء التقليديين من الزعم بأن هذه الطائفة أو تلك مضطهدة، سواء في حصة الحكم أو في الثروة الموهوبة طبيعياً أو الناتجة عن الشغل...الخ وذلك كي تبدو قيادتها كمنافحة عنها محلياً، وكمؤمنة بحقوق الإنسان خارجياً. وكلما كأن المجتمع اقل تصنيعاً وأقل إنتاجية، كلما كأن أميل إلى تقاسم الغنائم والثروة وليس إلى الإنتاج وتقاسم الفائض، وهذه بحد ذاتها أرضية للتعاطي السهل مع التمويل الأجنبي.

وهنا يجري تضخيم أخطاء الأنظمة العربية سواء المنحى القومي أو المنحى المعتدل –المتخارج، لتبدو سياساتهم القمعية كما لو كانت سياسة تمييز للعرب على غير العرب في هذا الوطن المشترك. وحينما ينجح هؤلاء في تصوير العرب كأكثرية تحتكر الامتيازات تكون قد جندّت ورائها الطائفة بمجموعها أكثر مما تجند الفئات المحرومة من الطائفة مما يخلق حالة من الغلواء العرقية أو القومية أو الطائفية بما يردها إلى حالة من التردي السياسي والثقافي، فتكون جاهزة للقاح الأجنبي. وفي هذا المناخ لا تتمكن الفئات الشعبية في أوساط هذه الطوائف من ملاحظة أن نسبة الفقراء والمضطهَدين بين العرب أعلى، ربما، من نسبتهم في هذه الطائفة أو تلك، وبأن الطبقة الحاكمة، وخاصة المالكة، هي تركيبة من جميع الرأسماليين والكمبرادور، وليست عربية خالصة[1].

تزدهر الطائفية والإثنية في ظروف عدة، منها أزمة الدمقرطة والحريات، والأزمات الاقتصادية، وأزمات الهجوم الخارجي سواء من الإمبرياليات الرثة أو من المركز نفسه. وتقوم موجة "التفتح" الطائفي هذه على فرشٍ ثقافي وإعلامي من النخب الإعلامية والثقافية المحلية والأجنبية أيضا. وعليه، تتورط منذ البداية في علاقات مع العدو القومي .

وقد لا ترتد المشكلة الطائفية أو الحرب الطائفية لواحدة من المسببات أعلاه، بل تكون في الغالب تركيباً منها جميعها. فأي قمع لهذه التحركات سيبدو كما لو كانت الأكثرية تتمتع بحريات مثالية، في حين يجري قمع الأكراد مثلا أو الامازيغ! أما المشكلة الاقتصادية فتنعكس في قيام الأجنبي بتوفير إمكانات لقيادة التوجه الاثني بحيث يتم امتصاص العاطلين عن العمل ليستغلوا كميليشيات لصالح قيادة الطائفة. وفي حال كهذا، تصبح هذه الميليشيات عملاً وظيفياً ضد الدولة المركزية.

وقد لا تكون هناك أزمة اقتصادية حقيقية في بعض القطريات، ولكن فشل الدولة في التسامح مع المجتمع المدني وإيصال علاقتها بالطبقات إلى حالة الهيمنة وليس القمع، وعجز النظام الحاكم عن أن يكون مجتمعاً سياسياً، وتحكم الطبقة الحاكمة بالثروة، حتى وأن جرى تسييل بعضها لبقية المجتمع بمن فيهم قيادة الطوائف الأقل عدداً، فأن هذا الوضع الهش الذي حال دون وجود إجماع وطني على أن البلد للجميع، تصبح الطوائف الأصغر جاهزة، ويدون مسببات اقتصادية حقيقية، للتفاعل مع دعوات الأجنبي ، الإقليمي أو الخارجي، من أجل الانفصال. وهذا ما يخشاه حكام قطريات الخليج من توظيف قطاعات من العرب الشيعة لصالح نظام الملالي في إيران[2].

أن فشل الدولة القطرية في خلق قاعدة اقتصادية إنتاجية متينة، تصهر الناس فيها من جديد ليخرجوا من القاعدة الإنتاجية الصناعية أو الزراعية، كطبقات لا كطوائف، وكمواطني أمة لا طوائف، يشكل كعب أخيل للأنظمة العربية الحالية، التي تستفيق اليوم على جاهزية للتفكيك من جهة وعلى عجزها عن منع ذلك التفكيك بالقوة من جهة ثانية، ليس لأن التفكيكيين مسلحين، بل محميين كذلك من نفس الأجنبي الذي حمى قطرية هؤلاء أنفسهم ذات يوم.

ينسحب فشل خلق القاعدة المادية للقطرية الواحدة على المبنى الاقتصادي على مستوى القطريات العربية بمجموعها. فقد حالت السياسات الاقتصادية القطرية دون التكامل الاقتصادي العربي والذي وحده قادر على استبدال البنية الطائفية بالبنيتين القومية والطبقية. وهكذا، ينتهي احتجاز التطور في القطريات، وهو احتجاز مشترك داخلي وخارجي، إلى فتكه هو نفسه بها كصانعة له ومحتمية به.

تُقصِّر البنية الطائفية عن الارتقاء إلى مستوى حماية السوق المحلي أو القومي كما هو مألوف في تطور أوروبا الراسمالية، وتعجز طبعاً عن التحكم بالفائض ومراكمته إنتاجيا وبالتالي التمحور على الذات...الخ. وينسجم هذا، على أية حال، مع مبنى الدولة القطرية نفسها أي المبنى الذي همّش المجتمع إنتاجيا وسياسيا وفككه ثقافياً. وعليه، تتنافس القيادات الطائفية على "تلزيم" السوق المحلي وليس احتكار هذا السوق وحمايته أمام الأجنبي، كما هو مألوف في الدول الصناعية.

يتداخل تعريف السوق مع تعريف الوطن. ففي مجتمع إنتاجي يكون السوق جزءاً من الوطن وحمايته كذلك. وفي مجتمع ريعي ومستورِد، يكون السوق مكانا، وربما ماخور اقتصاديا للتقويد على الاستهلاك المحلي أي الفائض المحلي لتهريبه في النهاية إلى الخارج.

يأتي الوعي من ويركب على البنية المادية، أو تولِّد البنية المادية وعيها المناسب. فاستمرار المبنى الطائفي، وتمسك الأنظمة القطرية بهذا المبنى لمواجهة النضال السياسي الاجتماعي اليساري أو القومي، خلق بدوره توزع في الوعي والموقف السياسي والثقافة وحتى الهوية محصورة في القطر والطائفة. وبهذا يتم توظيف الوعي والثقافة والهوية المجزوءة لصالح الانفصال، أي لصالح نخبته العليا. ولا تتبدّى أبعاده القاتلة إلا بعد زمن طويل، تكون الشقة فيه قد تباعدت مع القومية الكبرى لتجد الدولة الطائفة نفسها في حالة العمالة المؤبدة. وقد تحصل استثناءات، أن تتنبه بعض الأجنحة الطائفية لحقيقة هذا الأمر فتتداركه. ربما هذا شأن أجنحة في الطائفة المارونية في لبنان الذين أدركوا أن مصيرهم مع مجموع لبنان، وكقطر عربي تحديداً، وأن الاستعمار لم يوجد كي يخدمهم[3] بل كي يستعبدهم ويستخدمهم، ولذا، انتهوا إلى المطالبة بعلاقة جيدة ومتوازنة داخل لبنان ومع سوريا.

وهكذا عاش الوطن العربي مسيرة متواصلة من الإجهاز. من التحرر الوطني المجزوء إلى حرب أهلية قطرية ثبتت سايكس بيكو ولّدت بدورها حربا طائفية تناسب التذرير في حقبة العولمة. جميعها حروب مركبة نظرا لتداخل أنماط الإنتاج والمراحل والتشكيلات والطبقات المالكة والحاكمة الغربية...الخ أن الحروب الطائفية، وحروب الشيع مدارة من الخارج والداخل بأدوات تابعة في الحرب كما هي تابعة في الاقتصاد والسياسة والثقافة. هذا ثمن ومترتبات التبعية الاقتصادية حيث تسمح بسياسة وثقافة تحكم من الخارج.

وهذا يستدعي التساؤل، هل المشكلة على العرب أم في العرب؟ هل للعرب طبيعة خاصة وهل هم حالة خاصة؟ أم أن الأمر متعلق بالتخلف والبنية الاجتماعية الاقتصادية وفرض التخلف وتطبيق طبعة خاصة من الاستقطاب والاستهداف؟ هل التخلف واستدعاء التفكيك والاستعمار مرة إثر أخرى هي مشكلة أعراق أم مشكلة عدوان مفروض ومتواصل؟ وإذا كأن هذا حال العرب، فما القول في إفريقيا التي تتواصل فيها حروب القبائل إلى جانب حروب القحط والعطش؟

ربما تساعد على الإجابة الأوضح حالة احتلال العراق وما آل إليه. فهل الحرب الأهلية في العراق المتمظهرة في الشيَعْ والطوائف هي إفراز واقع محلي كلياً، أم هي في الأساس نتيجة للاحتلال؟

العراق والحرب الأهلية

يتحالف احتجاز التطور بقطبيه، أو يتحالف قطبا احتجاز التطور لضمان استمراره. فالقطب الداخلي بما هو طائفي يتحول أكثر فأكثر إلى كمبرادور، والقطب الخارجي، بما هو إمبريالي، يتحول إلى حالة استعمارية، إلى غولٍ عالمي ينشىء قطاعاً عاماً رأسماليا معولماً. في هذا التحالف يكون الوجه الطائفي للكمبرادور الطائفي أكثر ارتباطاً بالمركز من وجهه القطري لأنه اكثر هشاشة بكل المستويات. ويكون كلا الكمبرادورين على علم ناتج عن الدافع المصلحي بأن عدوهما الحقيقي هو القومية العربية. وعليه، لا يكون هناك معنىً مادياً حقيقياً لخلافات المسلم والمسيحي، أو الشيعي والسني، بل يكون خلاف هؤلاء جميعاً قائم على أرضية طبقية أولاً وأخيراً، بغض النظر عن اللبوس الثقافي والديني لها في بعض الأحيان.

أن الطائفية والعشائرية في المحيط هي المناخ الأفضل للعولمة بما هي تجزيئية وتفكيكية حتى العدم. فالطائفية مع تفكيك المجتمع إلى احتقانات صغيرة بمراتبية طبقية في مستوى متدني، وهي بذلك اكثر ميلاً باتجاه الماقبل رأسمالية، ومعاكسة لحماية السوق القومي. والطائفية بما هي نزوع إلى ما قبل الراسمالية، لا بد أن تستدعي البطريركية بإنعاشها وتقويتها، وهما معاً يستدعيان الاستعمار.

لعل المهم هنا أن مبنى الطائفية طبقي أساسا وعملياً. فالطائفة ليست طبقة ولا شريحة واحدة، فهي من داخلها مراتبية كما هو المجتمع، وأن أنت أكثر دناءة من مراتبية المجتمع غير النامي أو المتخلف . كما أن الفئة العليا فيها ، وهي تجمع في الغالب المال والدين والارستقراطية، تستخدم الشرائح الدنيا اقتصاديا وثقافيا ودينيا وقتاليا ليموت هؤلاء في سبيل بقائها في القمة، السلطة السياسية للطائفة ووصولاً إلى القطر بالضرورة. وتجربة لبنان ولاحقاً العراق شاهد طعمه مُرٌّ على ذلك. أما هذه الشرائح الدنيا وهي من الطبقات الشعبية في المجتمع، فينعدم وعيها السياسي الطبقي بحقها في القيادة كلما قوي النزوع والتهييج الطائفيين.

جاء الاحتلال الأنجلو-ساكسوني للعراق كي يبقى هناك. هذه هي القاعدة، وما عداها استثناءات متبدلة متحولة. يتمكن الاستعمار من المستعمرات سريعاً وبالجملة، ويخرج منها في الحالات الثورية والجذرية قتيلاً وبالتقسيط، وفي الحالات الإصلاحية المسأومة لا يخرج حقاً. هذه أيضا قاعدة فهم راس المال واضطراره للتخلي عن النهب والربح. والقوى التي استدعت الاحتلال، جاهزة لاستدعاء أي عدو للحفاظ على مصالحها، ولا يهمها قط أن تُتّهم بالعمالة لإيران أو لأميركا طالما هي تمارسها علانية.

لم تكن القيادات السياسية والمرجعيات الطائفية للعرب الشيعة في إيران مجرد لاجئين سياسيين ، بل كانوا طابوراً خامساً ضد الوطن، حتى دون تشكيل فيلق بدر الذي يلعب اليوم دوراً إرهابياً بامتياز ودعم من السلطة العميلة في العراق. ولم تكن إيران ولو ليوم واحد مجرد جارة للعراق، بل هي دولة تحتل الأهواز، وتطمع في جنوب العراق. كما تطمع في الهيمنة على المشرق العربي بأجمعه. لذلك ليس صحيحاً أنها التزمت الحياد في العدوان على العراق عام 2003، ليس صحيحاً أنها اكتفت بمتعة النظر إلى عدوها العراق وهو يُذبح، وما الذي يمنعها من المشاركة في ذبح عدوها! لا اقل من أن تفعل ما فعلته معظم الأنظمة العربية، أي المشاركة على قدر "أهل العزم"! ففي الوقت الذي كانت جيوش الأنجلو-ساكسون وكافة من معها من الغرب تدخل العراق عبر الحدود العربية، كانت "قوات بدر" تدخل من إيران إلى العراق ومعها عبد العزيز الحكيم، الذي يطالب اليوم بتمليك العراق لإيران عبر دعوته العلنية لدور إيراني في العراق؟ وهي الدعوة التي ترافقت مع التلميح بخروج الاحتلال مما يؤكد أن هدف الحكيم هو "تفريس" جنوب العراق تدميراً للوطنية العراقية ولعروبة العراق.

لدينا قناعة بدرجة عالية، أن التنازع الأميركي-الإيرأني على السطح لا يعكس حقيقة المصالح المشتركة بين الطرفين، على الأقل في الأطماع في الوطن العربي بدءاً من العراق. وهذا يؤكد أن للطرفين مصالح حقيقية ورئيسية في الصراع والحرب الطائفية في العراق. وهي حرب ترافقت مع الاحتلال نفسه.

وإلا، فما معنى التنسيق المفتوح بين الحكيم وأمريكا وهو في تهرأن؟ كيف كأن مسموح له الاتصال والعمل المشترك مع ما يسمى "الشيطان الأكبر"؟ ثم، ألم يأت الاحتلال لتنصيب سلطة طائفية شيعية مكان النظام البعثي العلماني؟ فهل أنت هذه الثمرة مُرّة في فك الملالي؟

على هذه القاعدة تصرف عبد العزيز الحكيم حينما دعى إيران للتدخل العلني في التطورات الداخلية في العراق. وذلك بعدما اتضح له أن المعادلة تسير باتجاه اكثر تعقيداً:

فالمقاومة لم تنته ولم تضعف، والقوات الأميركية عاجزة عن حسم المعركة، وجيش السلطة مخترق وعاجز عن المواجهة، كما أن قيادة العرب السنة التي ارتكزت على المقاومة أخذت تفرض شروطاً في اللعبة السياسية، بمعنى تقوية اكثر للتيار العروبي في العراق لا سيما حين تلاقت مصالح السنة والأكراد ضد الديكتاتورية الاكليريكة والكمبرأورية الشيعية. هنا كأن لا بد للحكيم من المجاهرة بالاستقواء الطائفي بإيران الفارسية لضمان تنصيب الأكثر تطرفاً في رئاسة الوزراء، أي ابراهيم الجعفري (وهو باكستاني) أو جواد المالكي، (وهو يهودي) ومعروف أن السيستاني (إيراني). فطالما أن النظام العميل في العراق يتكيف طائفياً بامتياز، ومن ينظر إلى تسمية رئيس الدولة ونائبيه ورئيس الوزراء ونائبية ورئيس البرلمان ونائبيه يعرف أن الصورة لبنانية بتسمية عراقية، وكلها ترتد إلى الأساس الاستعماري وتفكيك عروبة الجميع وهو ما نجح فيه الاحتلال حتى اليوم.

ما الذي يمنع إيران من إشعال حرب الطوائف في العراق؟

فالنظام الإيراني طائفي بامتياز. فهو نظام يعلن نفسه كممثل للطائفة الشيعية بكل التعصب الممكن مما يجعل حدود التسامح ضيقة إلى ابعد مدى، ومما يخلق لديه قناعة بأن كل شيعي أينما كأن هو من رعاياه، وأن له الحق في استخدامه كيف شاءت مصالح النظام الاكليركي الأم في مدينة قم ومنها لصالح تهرأن السياسي. أما هل يتصرف العرب الشيعة هكذا، لا نعتقد ذلك. لذا، علينا التفريق بدقة وحسم بين الثوريين من العرب الشيعة وبين القيادة السياسية والقمة الاكليركية، ليس في أوساط العرب الشيعة بل مختلف العرب مسلمين ومسيحيين.

ومن جهة ثانية، فالنظام الإيراني قومي بامتياز أيضا، فهو إدماج بين الطائفة والقومية. ولولا عدم وجود قومية يهودية، ولولا الوجود المبكر للكيان الصهيوني الاشكنازي قبل نظام الملالي في إيران، لكان نظام تهرأن في إيلاج الدين في القومية نسخة عن نظام تل أبيب. وخطورة هذا الأمر أنه لا يقف عند الحدود القومية لفارس الحالية. ولو وقف عند هذه الحدود لكان الأمر مفهوماً، ولا نقول مقبولاً.

وابعد من هذا، ففي حقبة العولمة حيث يُحظر على قوميات المحيط التمسك بالسيادة، وهو أمر نرفضه بالطبع، إلا أن إيران تطرح نفسها في حقبة العولمة، كما أنت تطرح نفسها في عهد الشاه، أي نهايات حقبة الإمبريالية، أي تطرح نفسها كإمبريالية رثة، تحاول جعل نفسها قوة إقليمية تفرض هيمنتها على المنطقة، أي على المشرق العربي كتجديد لما أنت عليه فارس كسرى أنو شروان، مستفيدة من ضعف القطريات العربية واستطالة تبعيتها وخيانتها للأمة.

وباعتبار الوطن العربي منطقة نفوذ للطامع الذي يتمكن من التغلُّب على طامع آخر، فأن هذا يسمح لإيران بالتفاوض على اقتسام النفوذ في المشرق العربي مع المركز الرأسمالي الغربي المعولم، وقد يكون في ذلك حصة للإمبرياليات الرثة الأخرى في المنطقة أي تركيا والكيان الصهيوني. وما الذي يمنع الرأسمالية في حقبة العولمة من تنصيب إمبرياليات رثة هنا وهناك طالما تخدم مصالحها؟

طالما أن إيران نفسها بلد طائفي، وطالما أنها قد تمكنت بعد إسقاط النظام القومي العربي العلماني في العراق، تمكنت من إقامة نظام طائفي في العراق، وتحديداً نظاماً شيعياً، فلماذا لا تدفع باتجاه حرب طائفية في العراق. أن الحرب الطائفية في العراق هي التطور الطبيعي للسياسة والفكر الرسمي في إيران. ولا يعيقها عن فعل ذلك أمر سوى تسليم الطوائف الأخرى بالاحتلال، وتسليمها للسلطة الطائفية الحالية في العراق، أي وضع الاقتصاد والمجتمع في يد الاستعمار وأداته المحلية أي الراسمالية الشيعية مدعومة بدعاء وتبريك الاكليركية الشيعية. من هنا ندرك أحد أسباب قيام جناح أو شريحة من البرجوازية السنية ضد الاحتلال والتدخل الإيراني، فهي تدافع عن مصالحها، وأن في إهاب عربي. ولكن تجدر الإشارة إلى أن هناك شرائح من السنة "برجوازيين ورجال دين" متعاونة مع الاحتلال أو تهادنه على الأقل، ولا سيما بدخولها مفاوضات تقسيم السلطة على أسس طائفية، وأن أنكرت ذلك.

تُدار الحرب الطائفية في العراق بطريقة مختلفة عن لبنان، ففي حين تقوم قوات الاحتلال بالقتل الموسع ضد العرب الشيعة تحت أغطية سنية، وفي حين تفعل ذلك مجموعات سنية سلفية متطرفة، تقوم ميليشيات الحكومة العميلة بالقتل في أوساط العرب السنة ليبدو عملها وكأنه دور حكومي لحفظ النظام. أي أن القتل الطائفي هنا "رسمي". ولتأكيد المبنى الطائفي في العراق، ولتثبيت القتل الطائفي، قامت قوات الاحتلال والحكومة العميلة بوضع قوات شيعية وكردية في مناطق السنة لتضمن قيامها بقمع العرب السنة بكل العنف الممكن.

لقد فتح تدمير الدولة العراقية الباب من جديد للقوميات القديمة "إيران وتركيا" حول المشرق العربي كي تتناوش هذا المشرق كل حسب فرصته وإمكاناته. وإذا أنت إيران شيعية فارسية، فأن تركيا متأوربة ومعادية للعرب بامتياز. كما دخل من نفس الباب الكيان الصهيوني الذي ساهم في تدمير العراق ولا يزال. وعليه، يواجه العراق أطماع ثلاثة إمبرياليات رثة إلى جانب الاحتلال الأنجلو-ساكسوني.

العراق محطة تطبيق لمشروع التفكيك المعولم

وكما المعنى في غير موضع، فأن ديدن راس المال المعولم هو تفكيك المحيط، وإقامة مخافر أمامية له سواء قواعده المباشرة أو الامبرياليات الرثة هنا وهناك. فالتفكيك يدفع الكنتونات لاستدعاء الاستعمار، لا بل يدفعها للترجي، لذا تكون جاهزة لتقديم كل شيىء أرضها وعرضها وسمائها وتراثها وثقافتها. فلا مقدس سوى بقائها في السلطة ومصالحها المترتبة على ذلك مع العلم أن هذه المصالح هي في مرتبة أدنى وتابعة لمصالح السيد الاستعماري.

يشتمل استدعاء الاستعمار بالطبع استدعاءات عدة، استدعاء جيشه بما لديه من تربية عنصرية وتعطش للدم والجنس والمال، بما تحمله تربية الراسمالية المعولمة من أمراض وتشوهات نفسية . ويتضمن استدعاء راس المال على شكل الاستثمارات المباشرة. وهذه حالة استعمارية بامتياز. حالة تتسابق عليها دول المحيط حيث تقدم هذه الدول تسهيلات مطلقة لهذا الغزو المالي، تسهيلات تفوق ما يقدم لرأس المال المحلي، بل على حسابه، مما يسمح لراس المال الأجنبي بالعمل في البلد التابع، وتحويل كل ما ينهبه "بحرية" إلى البلد الأم.

لماذا لا تكون لأميركا إذن مصلحة في حرب الشيع في العراق؟ وهي قد دخلت على أساس التفكيك والنهب طالما أن هذه الحرب وذلك التفكيك يحقق المصالح الأعظم لها.

والعولمة هي رفع الاستقطاب إلى درجته القصوى، ولا يحقق هذه الدرجة القصوى أمر أكثر من التفكيك. وإذا كأن ثمن التفكيك مدفوع من شعب العراق أو التوابع العربية، فما المانع في ذلك؟ كأن العراق البلد النفطي الوحيد في المشرق العربي الذي وقف في مواجهة الاستقطاب محاولا إنجاز مشروعه التنموي النهضوي ولا سيما ببعده القومي. وهذا الأمر وحده كافٍ لإصرار المركز المعولم على تدميره. وهذا المشروع العراقي هو نفسه الذي عادته أنظمة النفط الأخرى مما دفعها للمساهمة في تدميره سواء برغبتها أو بإملاءات حُماتها الرأسماليين الغربيين. أن دويلات الخليج هي حالة تفكيك بامتياز، وهي قابلة لمزيد من التفكيك.

التفكيك افضل للعولمة، فالتفكيك الكأنتوني يعني تحويل الدفاع عن القطر أو الوطن العربي إلى اقتتال داخلي بين الكأنتونات مما يجعل وجود السيد الأجنبي ضرورياً ليقوم بدور إدارة شؤون العلاقات بين الكأنتونات بدل الحكومة القطرية. هكذا سيكون العراق. وهي إدارة قد يُعهد بجزء منها لإحدى الامبرياليات الرثة في المنطقة. فبدل الحكومة الوطنية، التي تدير الشؤون المحلية للبلد، تكون هناك كأنتونات متحاربة، وسيّد إقليمي ليشرف عليها، ومن فوقه المركز الرأسمالي المعولم. نعم، وفوق كل ذي بأس ذو باس اشد منه!

يخلق تفكيك العراق صراعاً دائماً على ثروة البلاد، صراع لا يمكن حله لأنه يخلق ثلاث طبقات كمبرادورية متنازعة المصالح. وكلما مر يوم على التفكيك كلما استحكمت التناقضات وزاد التباعد الداخلي والتقارب والتقرُّب من الأجنبي. وكل هذا لأنه لن تعد هناك برجوازية قومية إنتاجية تجعل السوق المحلي نقطة جذب وتجميع، حيث تحل محله مصالح التفكيك الكمبرادوري.

وقد يصل الكمبرادور إلى إلغاء السوق بمعنى المكان الجغرافي ليصل الأمر إلى توصيل البضاعة من المصدر إلى المنزل كما هي تحويلات النقود على الانترنيت. فهل هناك تفكيكاً أكثر من هذا التفكيك. ففي غياب السيادة القومية تصبح السيادة للشركات عابرة القومية والتي تبني شبكات تسويق تصل إلى كل منزل.

تقود حرب الطوائف وتفكيك العراق إلى استقواءات ثلاثية الارتباطات مما ينهي الوطنية العراقية. تقوم قيادة الشيعة بالاستقواء بإيران، وقيادة الأكراد بالاستقواء بالأكراد في إيران وتركيا وسوريا، والسنّة بالاستقواء بالبلدان العربية الأخرى. وهذا يقرب البلد من نقطة اللاعودة.

يخدم التفكيك الحرب الطائفية، لأنه يُبرز إلى السطح دور شيوخ العشائر الذين تتناقض مصالحهم وثقافتهم ومواقفهم مع الأبعاد والفضاءات الطبقية والقومية والأممية. هذه القيادات هي قمم العشائر أي الفئات الإقطاعية التي تتناقض مصالحها مع جغرافيا القطر فما بالك بالأمة.

أما عن تناقض الطائفية مع المقاومة فحدث ولا حرج. فالمقاومة ولاء للوطن والأمة، وهذا لا يخدم القمم الإقطاعية بل يستفزها ويثيرها لأنه يعني خروج الجيل المقاوم من تحت عباءتها، وقد يقف ذات يوم فوق تلك العباءة[4].

لذلك، تتناسب شدة المقاومة مع تشجيع الحرب الطائفية من قبل المحتل والامبرياليات الرثة والإقطاع السياسي ورجال الدين والعشائر والكمبرادور ومثقفي الاستعمار. وهذا ما يتضح في الآونة الأخيرة حيث يتم إذكاء الحرب الأهلية والصراخ الكاذب من مخاطرها. رمتني بدائها وأنسلّت. ليس المحتل هو المتحكم بصنبور المقاومة، ولكنه متحكم بصنبور الحرب الطائفية/الأهلية، فكلما تقدمت المقاومة كلما زاد اشتعال الحرب الأهلية. وقد يكون السيناروي على النحو التالي:

لقد دخل الاحتلال بتنسيق واستدعاء من القيادات البرجوازية والدينية الشيعية والكردية وإلى حد أقل ربما السنيّة إلى العراق. وهو أمر رضيت عنه إيران بالتمام والكمال. وعليه، فأن راية الطائفية هي التي رُفعت في العراق مكان راية العلمانية. لكن اشتعال المقاومة المباشر فاجأ المخططين الأميركيين والإيرانيين وأتباعهم في العراق، واصبح القضاء على المقاومة عبئاً يتزايد يومياً دونما نتائج تذكر.

لعل الأهداف المرحلية للمقاومة هي إرباك وأنهاك جيش الاحتلال بحرب العصابات والمقاومة المدنية بشكل خاص وذلك عبر جر قواته لأكثر ظهور ممكن لاستهدافها. وبالمقابل، فأن الاحتلال كي يقلل خسائره، لجأ إلى نفس تكتيك المقاومة وذلك بالاختفاء الذي اتخذ التواجد في معسكرات بعيدة عن ضربات المقاومة، أو اللجوء إلى إحاطة نفسه بأكبر عدد ممكن من المستخدمين المحليين، سواء في النقل أو الادارات المحلية أو التزويد بالوقود والغذاء...الخ كما لجأ إلى تجنيد شرطة محلية بحجة الحفاظ على الأمن والحياة المدنية في المدن ، وأنشأ جيشاً جديداً كذلك. لكن زعم الحفاظ على الناس كأن كذبة مكشوفة، فالاحتلال هو الذي فكك مختلف الأجهزة الأمنية العراقية وخاصة الجيش والشرطة منذ يوم الاحتلال الأول وأطلق يد اللصوص المحليين والمافيا الدولية لنهب تراث العراق وتدمير بنيته التحتية. . وبالتالي هدف الاحتلال إلى جعل المواطنين العراقيين في مقدمة المواجهة مع المقاومة.

أمام محاولة الاحتلال الاحتماء بالمواطنين وتشغيلهم نيابة عنه، كأن لا بد للمقاومة من تجريده من هذا السلاح. وهو الأمر الذي اتخذ طابع تحذير الناس من أي عمل مع الاحتلال أو نيابة عنه باعتبار كل من يحل محل جندي من الاحتلال، إنما يحمي ذلك الجندي. لأن توفير الأمن المحلي هو واجب جيش الاحتلال طالما هو المسيطر على البلاد. فأن تشكيل حكومة عميلة في البلد إنما يسهل على الاحتلال عدم الانشغال بالأمور اليومية والحماية اليومية مما يجعل جنوده بعيدين عن طائلة يد المقاومة.

لذلك استهدفت المقاومة رجال الشرطة والجيش العراقي الحكوميين واللذين تشكلا بإشراف الاحتلال وبتدريب أنظمة عربية موالية للاحتلال وداعمة له. وهو استهداف طال في حالات كثيرة مدنيين تواجدوا في أماكن وجود الشرطة التي تسرق أيضا تكتيك المقاومة في الاحتماء بالمدنيين، ولكن بالطبع على غير رغبة من المدنيين. وبالطبع، أدت الإصابات بين المدنيين إلى وصف المقاومة بالإرهاب.

وفي الوقت نفسه، تمكنت المقاومة من اختراق صفوف الشرطة العراقية، كما رفض رجال هذه الشرطة، ولا سيما في العدوان الثاني على الفلوجة، رفض هؤلاء المشاركة مع المحتل في تدمير البلد. وهنا، حيث وجد الاحتلال أن رجال الشرطة لا يقومون بما يريده منهم، قرر الاحتلال خلق قاعدة قوية للحرب الطائفية، التي طالما زعم أنه ليس بصددها. فقد استعان الاحتلال بقوات كردية لضرب مناطق المقاومة العربية السنية، ونقل قوات شرطة شيعية إلى مناطق السنة، حيث وجد أن شرطة كل طائفة أكثر تقبُّلاً لتنفيذ أوامره ضد الطائفة الأخرى، لا سيما أن من يقبل بالعمل ضمن شرطة الاحتلال لا يمتلك الوعي القومي المطلوب، وربما هو اقرب إلى الأُميّْ، هذا دون أن نتجاهل الوضع الاقتصادي الضاغط على هؤلاء الناس والذي لا شك أن الاحتلال معني بخلقه وتكريسه.

أن تجميع عاطلين عن العمل، وذوي خلفيات طائفية، ويفتقرون إلى مستوى مقبول من التعليم، ومعبئين بالثقافة الطائفية على حساب الأمة، أن تجميعهم في جيش تحت سيادة الاحتلال، يخلق منهم حالة فاشية بامتياز. فتجميع أمثال هؤلاء البسطاء البؤساء يعني وضعهم في بوتقة تُحولهم من التخلف والبؤس إلى الوحشية المنفلتة، في حين أن تجميعهم في مصنع يخلق منهم مع الزمن حالة طبقية. ولكن الاحتلال، دمرَ هذه القاعدة المشتركة للطبقات الشعبية في العراق حين دمر الصناعة والزراعة وحتى الآثار، ناهيك عن الجيش الوطني لأنها قامت جميعاً على أساس قومي/طبقي وليس على أساس طائفي. ومع ذلك، فأن هذا لا يخفي تمتع برجوازية السنة بامتيازات أوسع من نظيراها من الشيعة والأكراد والتركمان...الخ خلال حكم حزب البعث والأنظمة السابقة له.

هذه السياسة الاحتلالية هي مثابة إطلاق العنان للحرب الطائفية التي لا شك أن الاحتلال معني بها طالما المقاومة متصاعدة.

تكون القشرة العليا من رجال الدين عامل أساسي في تفجير وإدامة الحرب الطائفية والإثنية. فقد استثمر الزعيم الشيعي ، الإيراني الأصل، آية الله علي السيستاني مكانته لتغذية النزعة السلطوية لدى برجوازية الطائفة الشيعية بما في ذلك استخدامها من قبل الاحتلال لاحتلال البلاد. وحينما قرر الاحتلال استخدام شرطة طائفة في مناطق طائفة أخرى، لم يرفض السيستاني ذلك، كما أنه غادر إلى لندن قبل أيام من مذبحة وتدمير الفلوجة (المرة الثانية)، وبقي هناك إلى أن شرد أهلها ودمّر نصف بيوتها[5].

لا شك أن الاحتلال الأميركي لن يقوم بإرسال قواته للحفاظ على الأمن الداخلي في المدن العراقية. فليس هدف الاحتلال حماية الناس لا سيما إذا تطلَّب ذلك تعريض حياة جنوده لنيران المقاومة. هذا رغم أن حفظ الأمن هو واجب المحتل طبقاً للقانون الدولي. ولكن الاحتلال الأنجلو-ساكسوني منفلت من عقاله فيما يخص مختلف القوانين. لذلك يستطيب الاحتلال توريط العراقيين في حرب طائفية تخدمه بما هي طائفية من جهة، وتقتل العراقيين كبدائل لجنوده من جهة ثانية.

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل نجحت المقاومة في استقطاب المواطن العادي في الشارع العربي الشيعي بقدر نجاحها في الشارع العربي السني ضد الانخراط في سلطة العملاء لأن ذلك يشكل حماية لجيش الاحتلال؟ لا يبدو أن ذلك قد حصل، كما لا يبدو أن أكثرية هؤلاء العرب الشيعة قد توصلوا إلى أن الحكومة المحلية هي نفسها عميلة للاحتلال.

لعل الحالة الوسطية في هذا المستوى هي موقف مقتدى الصدر الذي يجمع بين الانتماءين الطائفي والعروبي وهو إذ يجمع بين الموقفين إيجابياً، يجمع بينهما سلبياً كذلك. فهو ضد احتلال العراق، ولكنه في الوقت نفسه يتصرف تجاه حزب البعث بطريقة تخدم الاحتلال وعملائه في الحكومة الشيعية. يمكن القول أن هناك إيجابيات في موقف التيار الصدري حتى اللحظة، ولكن تطورات الأوضاع إلى حرب طائفية سوف تضع هذه القوة الوسطية في مأزق تحديد موقفها. فإما موقف قومي علماني وإما موقف طائفي.

أن مجرد وجود وبقاء الطائفية هو بذرة تقسيم وتفكيك القطر الواحد دون مواربة. وهي بذرة تبرز مخاطرها أكثر في حقبة العولمة حيث تدفع الأخيرة باتجاه تذرير المحيط وتركيز المركز. أما وهذا هو الحال، فلماذا لا يكون ما يحصل ضد لبنان اليوم هو تجهيزه لحرب أهلية جديدة قد لا يكون حلها إلا بكونفدرالية الطوائف وما يتبعها من تقويض للبنية الإنتاجية ومن تطهير عرقي، وتحويل الأكثرية الشعبية إلى احتقانات اجتماعية رثة. وإذا أنت الحرب الأهلية الماضية قد انتهت إلى ما كأن عليه المبنى الطائفي السابق في لبنان، فأن العراق يُدار بنفس الاتجاه. لكن العراق أخطر، لأنه قطر عربي يحتوي مقومات مركزية. وإذا لم تنجح في العراق عملية تقاسم السلطة بين برجوازيات الطوائف بإشراف الاستعمار، فلماذا لا يتم تجسيد التقسيم، وهو في كردستان حاصل بالفعل. في العراق كما في لبنان، قمة برجوازية تملك المال والطائفة والدين. قمة متصارعة ومتحالفة في نفس الوقت، تعزز التحالف كلما كأن بينها تراضٍ عن الحصص، وتعزز الاقتتال على الأرض ليعدل كل طرف حصته. ولكن في كافة الأحوال تقدم للطبقات الشعبية ثقافة الطوائف والاحتراب.

إذا أنت الكونفدرالية لم تنفع في لبنان في حقبة الراسمالية الإمبريالية، واضطرت القيادة المارونية للتراجع عن ذلك حيث وجدت مصلحتها عند العرب، ووجدت أن أميركا غير معنية بإسرائيل أخرى في المشرق العربي، فأن حقبة الرأسمالية المعولمة تدفع باتجاه التذرير والكنتونات في كل الوطن العربي ومحيط النظام العالمي. وهذه حالة أوفر حظاً في العراق حيث قيادة العرب الشيعة ترى نفسها فارسية وترى في إيران ظهرها القوي. لذا، قد يكون الأفضل برأي هذه القيادة، كونفدرالية طوائف في العراق مرجعيتها دولة الملالي على عراق موحد، فطالما هو موحد، سيكون هواه عربياً.

بقي وجوب القول أن القيادة البرجوازية /الطائفية للعرب الشيعة معنية ببقاء الاحتلال وبالحرب الأهلية تحت إشرافه طالما هي عاجزة عن حسم الساحة لصالحها في علاقتها بإيران. وهذا تعبير عن انقسام البرجوازية المحلية في العراق بين ذات توجه قومي إنتاجي علماني مقاوم وبين ذات توجه كمبرادوري متخارج. لذا ترفض الثانية مجرد مناقشة خروج الاحتلال أو الحديث عن جدول زمني لخروجه؟ ورغم التناقض الظاهر بين البرجوازيات العربية الحاكمة وبين البرجوازية والاكليركية للعرب الشيعة في العراق، إلا أنهما تلتقيان في خدمة المحتل. تدافع معظم الأنظمة العربية عن بقاء الاحتلال في العراق بحجة مخافة الحرب الأهلية. وبما أن الحرب الأهلية قائمة ودائرة، فأن هذه الأنظمة تريد حرباً أهلية بقيادة الاحتلال لتكون نتائجها لصالح عملاء الاحتلال. لعل أوضح المواقف ما عبر عنه الرئيس المصري في رفضه لخروج الاحتلال. أما توجيه تهمة انتماء العرب الشيعة إلى إيران، فهي تعميم مرفوض قد يكون قُصد منه لفت النظر عن دعوته لبقاء الاحتلال. وهذا الموقف هو تقريباً موقف جامعة الدول العربية التي أقامت علاقات مع الحكومة العميلة. وهكذا، فأن النخبة السياسية الرسمية العربية مدعومة بمدائح نخبة ثقافية عربية، تصر على بقاء الاحتلال إلى أن تُحسم الساحة ضد المقاومة لأن انتصار المقاومة سيغير صورة المنطقة ومستقبلها. أما تلبيس حصول وبقاء الاحتلال بفزاعة الحرب على الإرهاب[6]، فليست سوى مبررات لتمرير مخطط العدو الرأسمالي الغربي ضد الأمة العربية.

الآراء الواردة في المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي حركة القوميين العرب mail.sy@raouf-b

المصــدر: موقع "كنعأن" الالكتروني: mail@kanaanonline.org

حركة القوميين العرب

جوال 00963 93042463

Raouf-b@mail.sy EMAIL:

http://www.arab-n-m.itgo.com/

للعودة الى الجزأ ألأول من البحث

للعودة الى الموقع السابق



[1] أنظر عادل سمارة، الخطاب العربي بعد سقوط بغداد في مجلة كنعان، العدد 118.

[2] هل يُجيز هذا الحال التفكير بأن يقوم الاحتلال الأجنبي لبلدان النفط باستخدام ملايين العمالة الاجنبية لمشروع سياسي ما هناك مضاد وفي مواجهة العرب؟ من يدري؟ صحيح أن هؤلاء ليسوا من انتماء قومي أو سياسي واحد، ولكن لهم مصالح مادية مباشرة واحدة. وإلا فماذا عن الكيان الصهيوني الاشكنازي ؟

[3] لا شك أن قطاعاً واسعاً من الموارنة في لبنان قد أدركوا أن المركز الرأسمالي لا يريد سوى "إسرائيل" واحدة في الوطن العربي. ولا يقلل مشروعه الحالي لتفكيك الوطن العربي كأنتونياً ثم إعادة إدخال كل كأنتون منفرداً في المشروع الشرق أوسطي الكبير، لا يقلل بل يزيد من صحة استنتاجنا هذا.

[4] ليس سلوك الطائفة الشيعية في العراق هو الأول والوحيد في هذا المستوى. فقد مرّت قوات الاحتلال الصهيوني من منطقة الجبل في لبنان، معقل وليد جنبلاط، دون أن تُلقى عليها حصوة واحدة. ولذلك انتهى وليد جنبلاط مرتعباً ومرتعداً من المقاومة اللبنانية. فهو مصاب اليوم بهوس أسمه حزب الله، أو سلاح المقاومة. ولذا، يهرول إلى واشطن لتدمير هذا السلاح، حتى لو ضاع لبنان.

[5] لا يختلف الدور الذي يلعبه المطران نصر الله صفير في لبنان في إذكاء النزعة الطائفية والحفاظ عليها، ومواصلة لقائه بالأميركيين عن دور السيستاني في العراق. ويتقاطع دوريهما مع مواقف الحاخامات اليهود الذين يحرضون على العرب والمسلمين أمثال عوفاديا يوسيف وغيره.

[6] في محاضرة لأحد مثقفي الاستعمار قال أياد جمال الدين، عراقي من العرب الشيعة: " أن انسحاب القوات الأميركية من العراق هزيمة حقيقية لأمريكا ونصر لأسامة بن لادن والظواهري ولكل الإرهابيين في العالم...نحن في حرب لا زمان ولا مكان لها، فالحرب على الإرهاب هي محاربة أشباح منتشرين في كل الأرض... أن الزرقاوي ضيف عزيز على حزب البعث...لقد أرسل صدام حسين بعد 1991 11 ألف شخص إلى دول أوروبية وأميركية كطالبي لجوء وأمدهم بتمويل ضخم محولا اياهم إلى رجال اعمال ولم يعأنوا مثلما عأنى الآخرون ممن اعتمدوا على المعونات الاجتماعية في الدول التي وصلوا اليها، هؤلاء يسمونهم في مصطلحات المخابرات العراقية السابقة بالزرع الاستراتيجي لأنهم سيكونون محميين بقوانين الدول التي يحملون جنسيتها، وهذه الشبكة اسماء اعضائها رمزية يمارسون تجارة دولية مشروعة وهم حاليا مصدر من مصادر تمويل التمرد ، وهناك مصادر اخرى من اموال يستثمرها عزت الدوري في الخارج. "، القدس 13-4-2004.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

  

Webster's Online Dictionary
with Multilingual Thesaurus Translation

     

  English      Non-English
eXTReMe Tracker