Wednesday, May 24, 2006

فلسطين: حرب شرائح الطبقة.. الجزأ الاول.. للدكتور عادل سمارة

الطوائف "الطبقات"

فلسطين: حرب شرائح الطبقة

الجزء الأول

د. عادل سمارة

الحرب الأهلية حرب بين قوى طبقية داخل البلد الواحد. هي أهلية حتى لو حصل تدخل خارجي لصالح هذه الطبقة أو تلك، طالما أن أطرافها ودوافعها الرئيسية داخلية. فالحرب الأهلية في أميركا كانت بين الرأسمالية الصناعية الصاعدة في الشمال، وبين ولايات الجنوب الأقل تطوراً. والحرب الأهلية في روسيا القيصرية خلال الثورة البلشفية هي أيضاً طبقية، رغم قيام الغرب الرأسمالي بغزو الدولة الجديدة بمليون ونصف المليون جندي لدعم البرجوازية المهزومة. وكذلك كان شأن الحرب الأهلية في إسبانيا رغم أنها كانت ملتقى صراع طبقي ببعد عالمي وهو البعد الذي هزم الطبقات الشعبية. من هنا، يرى الثوريون أن الحرب الشرعية الوحيدة هي الحرب الأهلية لأنها حرب عادلة، حرب تحرر الفقراء وهم الأكثرية من استغلال الأغنياء وهم القلة . كما نلاحظ، يصح هذا النمط على بلدان غير خاضعة للاستعمار لا عملياً ولا مجازاً.

وتبقى الحرب الأهلية حرباً طبقية حتى لو جرى استخدام ذرائع وملاءات أخرى لتغطيتها مثل الدين والثقافة، والطائفة والإثتية وغيرها، فهذه جميعاً يتم توظيفها في خدمة المسبب الأساس لهذه الحرب.

ولكن، حينما يحرك الأجنبي، أي الاستعمار، أو يقود حرباً داخلية في بلد معين يصبح توصيف هذه الحرب أكثر تعقيداً لأنها تخرج عن المعايير المألوفة للحرب الأهلية. فهل حرب الطوائف والشيع والإثنيات في العراق هي حرباً أهلية؟ وهل أطرافها عراقيون وحسب، وأين موقع الاحتلال الأميركي-الغربي في الأمر، وأين موقع إيران وهل تتدخل طائفياً أم قومياً؟

يتضح هذا التعقيد من تداخل الطائفية كعلاقة اجتماعية ما قبل رأسمالية، تحتوي على بعد إيديولوجي/طبقي مركّب تُبرر من خلاله الشرائح الفقيرة بزل الفائض منها لصالح الشريحة العليا إلى درجة تجعل الاستغلال مقبولاً بأريحية، ولو علناً وحسب. وتسحب هذه المراتبية الطبقية في الطائفة، تسحب نفسها على صعيد المجتمع بمختلف طوائفه طالما الوعي الطبقي في حالة احتجاز، وطالما الشرائح العليا في الطبقات متآلفة متصالحة، أي طالما تقتسم الفائض دون منازعات بينها. يحمل هذا التداخل مسألة أخرى هي: هل الطائفية كيان قائم بذاته، أم هو هكذا، أي كياناً، في إيديولوجيا البرجوازية وحسب؟

لعل الفهم الأفضل لهذا الأمر في جوهر الطائفية بمعنى أنها تبرز على السطح في فترة الأزمات بما يؤكد أنها ذات دور مقرر في المجتمع، وإن كانت تضمُر أحياناً بما يوحي بغيابها الكلي. هي إذن وجود اجتماعي يبرزه أو يخفيه دوره كعلاقة اجتماعية طبقاً لطبيعة التحديات الطبقية في مجتمع معين، وتحديداً طبقا للوعي الطبقي ووضوحه من جهة وطبقاً للمعركة الوطنية أو القومية التي تُخاض في قطر ما وفي حقبة ما من جهة أخرى. ومن حيث موقعها ودورها ميدانياً، فإن الطائفية هي حالة انسداد أو تشويه للتطور الطبقي

وتحديداً لتطور وعي الطبقات الشعبية لمصالحها التي بسبب وعيها المشوه أو الغائب، تقاتل نفسها.

****

الوطن العربي وطن لم يستقر، ولن يستقر قريباً، أي لن يخترق سريعاً حاجز التخلف، ولن يحقق المحرمات: التنمية والوحدة والحرية والديمقراطية وتطورها الأعلى، الاشتراكية. والهدف هنا تثبيت التصور، أو توضيحه قبل أن نعزو هذه المصائب إلى هذا العامل أو ذاك. فتشخيص الواقع يفتح السبيل إلى معرفة المسببات. يشكل التشخيص قوة معرفية يفرضها الواقع المادي لتقوم بدورها بالدفع باتجاه التجاوز وتخطي ما هو قائم.

وبعيداً عن الحروب القديمة والقروسطية، فإن الوطن العربي قد أُستهدف بحروب وعدوانات متواصلة تلازمت مع بدايات الرأسمالية أي مرحلتها التجارية بدءاً بالكشوفات الجغرافية، ومن ثم دخول الرأسمالية حقبة الاستعمار فالإمبريالية فالعولمة. لذا كان على النهضويين العرب مواجهة قوى العدوان حتى قبل قوى التخلف الداخلي. ولا يقلل من هذه الحقيقة زعيق الأجانب والعرب الذين يتهموننا بنسب خراب الوطن العربي وتخلفه إلى ما يسمونه نظرية المؤامرة. فالمسألة أوسع بكثير، إنها خطة تتعرض للمراجعة والتنقيح والتطوير المتواصل لخدمة مصالح استعمارية لا يمكن ردها أو تقزيمها إلى مجرد مؤامرة، باعتبار المؤامرة دائما حلقة صغيرة ولمشروع صغير أي جزءاً من الخطة.

تشير سياسات قيادة العولمة الرأسمالية إلى أن الوطن العربي مقبل على التحول إلى مسرح لأنواع متعددة من الحروب، من الاحتلال القومي، أو متعدد القوميات والاثنيات إلى الاحترابات الداخلية بين قطرية تابعة وأخرى وحروب الطبقات في ثياب الشيع والطوائف والشرائح وحتى الشلل والزلم والمذابح داخل الطبقة الواحدة. وهو مثار قلق مصيري يتطلب رؤية ثاقبة لما يحصل وتصدٍّ له.

اختزال الوطن إلى مكان

بدون القطع الثوري بين مرحلة وأخرى، يبقى القديم الذي أريد كنسه حياً ومؤثراً داخل الجديد الذي زعم التغيير والتخطي. وبالتالي يبقى القديم كقوة شدٍ إلى الوراء، ويستمر الجديد متعثر الخطى يدور حول نفسه لتبيث ما حصل عليه في أحسن الأحوال، وتتعثر خطاه للدوران حول نفسه، وأحياناً إلى الوراء، ليبدو ذلك وكأنه حركة إلى الأمام. أما القديم، فلا يطمع بأكثر من ذلك، بأكثر من جديد مخصيٍّ. هكذا حال الوطن العربي. بل هذا حال القوى الطبقية التي قادت هذا الوطن في القرن الماضي، قوى لم تقطع بما تريد ولم تقطع مع ما أتت لتغييره. ولم يكن العجز عن القطع هذا، مجرد قصور بريء عن فهم المطلوب، بقدر ما هو حفاظاً على مصالح تتداخل لها جذورها في القديم والجديد، حالة من المخاليط الطبقية، والمصلحية التي تتعايش مع هذا التمازج الهجين.

في المرحلة المسماة، مرحلة تحرير الوطن من الاستعمار، كان هناك خلط بين الوطن والمكان. والأرجح أن ما حصل ليس حتى تحرير المكان، بل إيجاد مقعد للقوى المحلية الجديدة إلى جانب من استعمروا المكان، بل في خدمة المستعمِر، أي التوسط بينه وبين الشعب. تعايش من نوع آخر، بين الطبقة الحاكمة الجديدة المحلية وبين عدو الوطن، الاستعمار، الذي زعمت طرده. لم يرتق مفهوم المكان إلى مفهوم الوطن باعتبار مفهوم الوطن هو مفهوم قومي واسع ومتكامل وواضح المعالم. يمكن للمكان أن يكون إمارة أو مشيخة أو مدينة أو منزل...الخ، أما الوطن فهو مفهوم جيو-سياسي-اقتصادي-ثقافي وتراثي روحي معاً. المكان ما قبل قومي، وما قبل صناعي وما قبل رأسمالي وما قبل اشتراكي وما قبل حر وما قبل ديمقراطي، أما وهذا حاله، فهو يوفر للقطرية مناخاً مناسباً[1].

لا يتطلب المكان أكثر من إدارة الشؤون اليومية للفرد بعيداً عن المسائل الكلية والمستقبلية المصيرية، وبأقل مساحة ممكنة من الجغرافيا والسياسة والاقتصاد، والسكان كذلك. أما الوطن فوحدة جغرافية تشترط تحرير سوقها الخاص، في حالة حكم برجوازية قومية ذات توجه تنموي إنتاجي، وتحميه من الآخر. لذلك، تَجسَّد المكان في الكيانات القطرية لصالح التشققات الطبقية في كل قطر وقطر والتي ليست أوسع بكثير من سناجق العثمانيين، ولذلك أيضا لم يتجسد الوطن في الوحدة القومية للطبقات الشعبية العربية.

جرى خلق المكان ليتوافق مع مشروع سايكس-بيكو، عُشٌّ هنا لهذا وآخر هناك لذاك. وساعدت على هذا البنى الأبوية التجارية في مختلف أماكن الوطن. فما تمَّت وراثته عن الحكم العثماني هو وطن متخلف محكوم من المركز العثماني جرى احتجاز تطوره سواء بالقصد السياسي القومي أو للمصلحة الطبقية للطبقة الحاكمة أو لكليهما، أما عملياً فكان التجسيد سلخ الفائض حتى الثمالة. لذا وصل الوطن إلى الحكم الاستعماري الرأسمالي الغربي جاهزاً لقبول التقسيم الجديد. لم تكن هناك بنى صناعية أو مراكز صناعية تشترط في بقية الوطن أن يكون سوقا لها. وطن بلا قلب صناعي، لذلك، لم تجد الأبوية والتجارية والعشائرية صعوبات تذكر في تقسيم الوطن إلى أماكن. وهو الأمر الذي حافظت عليه الكيانات القطرية حتى اليوم كي لا تضطر لتحويل المكان إلى وطن، حيث واصلت مسيرة انتزاع كل مشترك قومي واختلاق تكوينات اقتصادية وثقافية وإعلامية وسياسية وشعاراتية قطرية مزعومة، ليس آخرها: "القطر أولاً...بل القطر أخيراً".

حالة المكان "القطر"هذه لا تستدعي ولا تشترط قطُّ خروجاً حقاً للاستعمار. وهي على أية حال تَشِي بنفسها. كانت حالات قليلة هي التي طُرد الاستعمار منها بالقوة. وبالتالي، بقي الاستعمار على الأرض، وإن جرى عرض القطر وعلى رأسه صورة حاكم محلي. بقيت الحالة الكولونيالية على الأرض، سواء الارتباط بالسوق العالمي، أو انعدام التوجه التنموي، أو فتح الجغرافيا للكشف عن النفط، أو فتح السوق لمختلف المستوردات...الخ وهي حالة أدنى بكثير من التبادل اللامتكافىء، لأنها حالة طرف يشتري وليس لديه ما يبيع. حالة من التلقي السلبي، منتج مقابل مستهلك، فاعل مقابل مفعول به.

لذلك، بقيت تركيا تحتل لواء الاسكندرون وإيران تحتل عربستان والجزر الثلاث، والكيان الصهيوني يستعمر فلسطين، وإسبانيا تحتل سبتة ومليلة. أما الدولة القطرية فتقيم علاقات تامة ومكتملة مع هؤلاء المحتلين، تماماً كما تقيمها مع المستعمِرين. لا، بل بدأت أخبار هذا الأقاليم بالتلاشي من كتب الجغرافيا في القطريات ليصل الطالب إلى الاعتقاد بأن الوطن بأكمله تجاوز مرحلة الاستعمار. مع أنه ظل كما هو باد ومؤكد تحت استعمارين إقليمي ودولي [2]. ومع مرور السنين، لم تعد تُذكر هذه المناطق المحتلة، باستثناء فلسطين التي يجري تحويل مفهوم الوطن فيها إلى مفهوم المكان الذي قد يختزن بعض الفلسطينيين ليسمى دولة أوسلو-ستان وبالتالي تُدرج في قائمة الوطن المنسي.

واليوم، في مرحلة ما بعد ، وبالطبع ما دون، الدولة القطرية، فقد اصبح الخارج، الولايات المتحدة ومساعدتها الاتحاد الأوروبي تحكم داخل هذه القطريات كما لو كانت شريكاً حقيقياً على الأرض والرعايا. تحولت وزارة الخارجية الأميركية إلى مندوب سامي في الوطن العربي، لا تنتهي زيارتها لقطر الحكم هنا حتى تبدأ هناك. أصبح مكتب كونداليزا رايس طائراً في فضاء الوطن العربي. ويتم في البيت الأبيض التعليق واتخاذ موقف على تطور في قطر عربي قبل أي حديث من حكام ذلك القطر. فبالإضافة إلى احتلال العراق وحكمه، تحمل الولايات المتحدة "قميص الحريري" في لبنان، وقبل أن يشارك جنبلاط في الحوار الوطني اللبناني يغادر إلى واشنطن ليتلقن ما عليه أن يقول ويفعل، وأثناء عودته إلى لبنان يلتقي في سماء الأطلسي مع فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء في لبنان، ذاهبا إلى البيت الأبيض ليحجز دوراً قبل حاكم عربي آخر. ويحافظ النظام العسكري الجديد في موريتانيا على علاقات التطبيع التي فعلها المخلوع سابقه مع الكيان الصهيوني. وتطلب واشنطن من القاهرة إبقاء الفلسطينيين في دائرة أوسلو[3]...وبالإجمال يتم تفكيك كل قطر من داخله سواء بالاحتلال أو بإثارة من برجوازيات عميلة تقود وإثنيات وطوائف لإعادة صهره في مشروع ما يسمى "الشرق الأوسط الكبير". أما أحد مخاطر هذا المشروع فهو أن هذا الوطن يُصاغ من الخارج وعلى يد عدوه الحقيقي. وهكذا، كلما جرى تفكيكاً أعمق، كلما اصبح الوطن العربي مثابة سلسلة انشطارات إلى أماكن.

وما كان لهذا أن يتم في عهد الدولة القطرية إلا لأن شِقّيْ الطبقات الحاكمة في الوطن العربي قد تمكنا من اغتصاب المجتمع السياسي واحتجاز المجتمع المدني:

· · فقد تمكن الشق البطريركي التجاري (لاحقا الكمبرادوري) أو ما يسمى بالدول المعتدلة (معتدلة في الحفاظ على ثروات الوطن، ومرنة في التفريط بها) تمكنت من البقاء في الحكم تحت وصاية الأجنبي الذي لم يُطرد منها فكان "النضال" فيها ضد الاستعمار مثابة مناورة عسكرية، لذا جاء استقلالها مسرحية . ولكن المهم أن معظم ثروات الوطن العربي متركزة في هذه القطريات بما هي نفطية.

· · كما قفز العسكر إلى الحكم في الفئة الثانية، المنحى الثاني للتطور في الوطن العربي، من القطريات العربية رافضين سياسة من قبلهم مطبقين إصلاحات زراعية واقتصادية بشكل عام. ولكنهم واصلوا الحفاظ على الدولة الرخوة، فلم تعصمهم وطنيتهم أو ميولهم القومية من اغتصاب المجتمع السياسي واحتجاز المجتمع المدني، وهو ما سَهّل عليهم الفساد وتحولهم واختراقهم من قبل الكمبرادور.

وهكذا، أُدخل الوطن العربي في حقبة العولمة بأنظمة تحكمها الأسر والعشائر شكلاً والمخابرات والجيش الأميركي عملياً من جانب آخر، وبقايا الانقلابات العسكرية ذات التوجه القومي الذي اخترقه الفساد والقمع من جانب ثالث. وقد يكون من الطرافة بمكان أن لا يلاحظ العالم شدّة القمع في قطريات المنحى الأول، لأن المعارضة السياسية في هذه القطريات ضعيفة أصلا، مما يُبدي الوضع مستقراً. ومن جهته، يُغمض الإعلام العالمي عينيه، كما يُؤمر، فلا يتحدث عن ما يدور في قطريات النفط حيث تأبيد حياة المرأة في بيتها في حين يسافر الرجل إلى كل مواقع بيع الجنس في العالم كمستهلك شره. أما في القطريات غير النفطية، فيقود الفقر إلى تجارة سرية للجنس. تجارة يدفعها الفقر وتغطي عليها مزاعم لبرالية للنظام هي اللبرالية المطلوبة حسب الوصفة الراسمالية الأميركية والأوروبية.

لقد وصل أمر الانخداع أو النفاق لدى كثير من المثقفين العرب ممولين من منظمات "الأنجزة" إلى العجز أو التغاضي عن رؤية التخلف والقمع الهائلين في قطريات الأنظمة "المعتدلة" فاصطفوا إلى جانب جهاز الإعلام والجيش وراس المال الغربي في الهجوم على قطريات العسكر (العراق وسوريا ومصر الناصرية –أحياناً بسبب انتهائها) وذلك ضمن مشروع معادٍ لأي تفكير أو عمل نهضوي عربي، مما يؤكد أن الهدف هو إبراز الأنظمة "المعتدلة" كنموذج يجب العودة إليه!

وفي حين يضغط الغرب الرأسمالي على بلدان المنحى القومي الإنتاجي كي تفكك القطاع العام وتخصخص السياسة والثقافة قبل الاقتصاد، فإنها تغض الطرف عن أن بلدان المنحى التبعي لم تسمح بعد بوجود قطاع خاص حقيقي، أي همشت المجتمع سياسياً وإنتاجياً. والطريف أن هذه البلدان قد انتقل العمل الاقتصادي فيها من غياب القطاع الخاص بشكله التقليدي إلى اقتصاد المضاربات لتخسر في شهري آذار ونيسان من هذا العام تريليونات في بورصاتها، ولتنتهي هذه التريليونات في جيوب المضاربين الغربيين، وتمويل احتلال العراق[4].

وهكذا، فإن الأنظمة "الصديقة" للغرب في بلادنا، أنظمة أخرجت المجتمع من السياسة ومن الاقتصاد، أي فكّت العلاقة بين المواطن والوطن، بين قوة العمل والإنتاج، فاصبح الوطن مكاناً لا يأبه المواطن إذا ما أُحتلَّ أو نُهبت ثرواته، لأنه مكان لا وطن. وفي المكان، لا يعني المرء سوى غرفة نومه[5] وربما المخدع وحسب. فمن أين لنا الحديث هنا عن التنمية؟.

وهنا نضع الإصبع على خطورة المثقفين العرب الذين يثرثرون عن وجود مجتمع مدني في الوطن العربي، ويزعمون الدفاع عنه وتقويته...الخ. وهذا الكذب والنفاق، الذي كما يبدو هو وظيفة "أنجزة" أكثر مما هو واقع قائم مطلوب تنميته.

تزامن المشروع النهضوي العربي الحديث مع هجمة سايكس-بيكو الاستعمارية الجديدة في الوطن العربي، وهي هجمة كانت ولا تزال في الأساس ضد المشروع النهضوي الوحدوي تحديداً. وقد نجحت في إجهاض مختلف المحاولات النهضوية. وبهذا انتهى الوطن العربي مجزأ كما كان، وعرضة لتجزئة أكثر عمقاً، وانتهى إلى تقاطب طبقي مشوه إلى درجة عالية. ففي حين راهنت الأنظمة القومية التقدمية والعسكرية أيضا، على توسيع الطبقة البرجوازية الصغيرة كي تحمل هذه على أكتافها التنمية والوحدة "والاشتراكية"، نرى أن هذه الطبقة تتلاشى اليوم لصالح استقطاب حاد قاعدته طبقات شعبية عريضة وشديدة الإفقار، وطبقة رأسمالية مالية وكمبرادورية طفيلية غير إنتاجية متخارجة في المصالح والثقافة والانتماء، وإن وشّحت نفسها بالدين، ومحمية بالأجنبي علناً إلى درجة استدعائه لاحتلال القطر والإنفاق على عسكره فيه ودعمه لاحتلال قطر آخر. وبالتالي فهي حيث أجهضت عوامل التكوين الطبقي التي تقود إلى صراع طبقي في تشكيلة رأسمالية من جهة قد وضعت قوى المقاومة وجهاً لوجه مع جيوش الاستعمار الأجنبي من جهة أخرى.

البنية القطرية رخوة وتمهيداً لحرب الطوائف

لا يُخفي ضعف الاكتمال الطبقي في الدولة القطرية، بما هي تابعة بنيوياً وليس صدفةً، وجود مصالح مادية لمختلف الطبقات. ولا يخفي هذا الضعف وجود التفارق والتمايز والتناقض الطبقي. ولا يحول المستوى المتدني للصراع الطبقي فيها دون رؤية كل طبقة لمصالحها مقابل مصالح الطبقة الأخرى، وعي مصالحها وانقيادها لهذه المصالح بوعي وليس لا إرادياً. والمغزى هو أن الدولة القطرية طبقية أيضا، وأساسا، وإن لم يبدُ هذا ببساطة للعيان.

ولكن طبقية هذه الدولة محتجزة جرَّاء احتجاز تطورها. هي محتجزة بعوامل طبقية داخلية، أي مصلحة الطبقة الحاكمة فيها كسلطة سياسية، لأن الطائفية ركيزة حصتها في السلطة.وعليه، يجري تقاسم السلطة طائفياً وطبقياً شريطة أن يظل هذا التوازن، وبالتحديد دون أن ينطلق الطبقي ليمحو الطائفي أي الهيمنة الطائفية. لا بد إذن من الحفاظ للطائفية على هيمنتها. ويكون هذا باحتجاز العامل الموضوعي للتطور وهو التنمية الصناعية. وحماية الأسواق وضبط الاستيراد وإنجاز التكامل الاقتصادي العربي. ومقابل ذلك، لا بد للطائفية من تقوية العامل الذاتي الخاص لها وهو القمع والبوليس والجيش...الخ وتضييع الشرائح الشعبية داخل كل طائفة بين وهم تهديد الطوائف الأخرى والاعتقاد بأن أمانها هو في تماسكها الطائفي.

يمكننا أن نزعم بأن ابتعاد الدولة القطرية بل عدائها للتنمية ليس بدافع ذاتي وحسب، بل هو كامن كذلك في بنيتها بما هي قطرية، أي ناقصة القدرة على إنجاز تنمية قادرة على الإقلاع.

الدولة القطرية هشة ورخوة واستبدادية في آن. لا يوجد في مبناها ما يشعرها بالأمان من خروج الطبقات الشعبية عليها. وهذا الخروج لا يشترط أن يكون طبقياً بكل الوضوح الممكن، فالخروج الثوري هو دأب تاريخي في مختلف مراحل تواريخ الأمم. الدولة القطرية هشة كمكان، أنها مجتزأة من الوطن، وهو اجتزاء مفروض على الوطن، ومحمي من كل من له عداء بدرجة أو أخرى للأمة. ولأنها مجتزأة فهي هشة اقتصادياً، ليس بمعنى مستوى التطور الاقتصادي وحسب، بل حتى من حيث سواد أخلاقيات وقيم وتقاليد الشغل والإنتاج. فهي كتلة استهلاكية، تستهلك بكل ما لديها، كثيراً أو قليلاً. فالقطرية النفطية تستهلك حتى التخمة لأنها تشعر بعداء مع هذا الفائض الذي بدل استثماره ليحمي مستقبلها يتم استخدامه ليغرس في حاضرها مرض البدانة. إن الثروة المالية في حالتها عبئ مطلوب التخلص منها كما يتخلص القاتل من جثة ضحيته[6]! والدولة غير النفطية، تستهلك كل ما لديها لأنه يقل عن الحاجات الأساسية. وعليه، تفتقران كلتيهما إلى إستراتيجيات البقاء وتغطّان في تعاطٍ مع اليومي لا التاريخي. وحينما تتعاونان، أي النفطية وغير النفطية، يكون ذلك لإطفاء العجز المالي لدى غير النفطية لتمكين اجهزة القمع فيها من تثبيت النظام الحاكم. أي لم يقم التعاون بينهما على أرضية التكامل الإنتاجي على الصعيد القومي، بل على صعيد تقوية دور السلطة وتوسيع جهازها البيروقراطي ليخلق طبقة واسعة معتمدة عليه. وليس قاعدة إنتاجية لتفريخ الطبقة العاملة الثورية بالافتراض إن لم نقل بالضرورة.

وحين تكون الدولة هشة، تكون رخوة، رخوة بمعنى أن لا ممنوع فيها. فهي ليست ممنوعة أو ممتنعة على الأجنبي، ولا توجد فيها حرمات أمام الحاكم. هي بؤرة فساد يصل حد الاستباحة. كيف لا حينما يكون الوطن والجيش والطيران والسفين وفرق الرياضة و"الحريم" ولا شك كلها للملك أو الرئيس أو الأمير أو المعظم أو صاحب العظمة والفخامة والمهيب؟ الوزراء من العائلة الحاكمة، وكذلك قادة الجيش، كل شيىء للحاكم، وعليه كل الشعب مجرد ضيوف، لا بل تنابل، عند الحاكم يطعمهم ويسقيهم ويحافظ على وجودهم وتناسلهم كما يفعل بالقطيع. مشكور هو إذن ومحمود على كل هذا!

أما والحاكم في هذا الموقع، فلماذا لا يكون استبدادياً؟ كيف لا وهو يُدخل في روع كل مواطن بأن وجوده عبىء على سيده، فكيف لهذا المواطن أن يثور، بل حتى يعترض، وكيف للحاكم أن يسمح له بمجرد التبرُّم؟

والحاكم، كممثل لطبقته التي قمتها الأسرة أو العشيرة الحاكمة وقاعدتها كبار ومتوسطي الضباط، وإيديولوجها مثقفو التبعية والمندوب السامي، لا بد له من شنِّ حرب أهلية متواصلة على الطبقات الشعبية سواء في الأجساد أو في الأرزاق كي لا يخرجوا عليه.

بيت القصيد أن هذا الحاكم/الطبقة لا بد أن يقود حرباً أهلية دائمة ضد الطبقات الشعبية. حرب تتجلى في قمع الحريات، منع التنمية، منع الدمقرطة، اختراق البنية الاجتماعية بالعسس والشرطة والفرق الخاصة من بيت لبيت. وفي هذا أسلوب حرب نفسية شاملة تفكك الأسرة الواحدة من الداخل بين مخبر ومحقق ومعتقل. لذلك، لا توجد برلمانات في الوطن العربي، وإن وُجدت فهي بالتزوير. والحاكم الأعلى مطلق سواء لأنه ملك لا يُزاح أو رئيس لا يترشح غيره، وحين يقضي، فقط حين يقضي يورث ابنه. وفي أكثر من حالة معاصرة يقوم الابن في السلطة هنا أو هناك بالانقلاب على أبيه مدعوماً من المستعمر الذي تكتشف الطبقات الشعبية فجأة أنه ما زال هناك، وأن العلم والنشيد الوطنيين والسجادة الحمراء للحاكم، والقطر أولاً، كلها مجرد شكليات سيادة، في حين أن السيد الأجنبي هو هناك في مختلف ثنايا السلطة. وفيما يخص حضور المستعمِر ودوره العملي، نجد أن لا فرق بين أوسلو-ستان والقطرية العربية؟. على أساس غياب الدمقرطة، تتوفر السجون والمعتقلات التي يزورها، أحيانا يسكنها كل من لا يمارس الولاء للنظام.

تتمظهر الحرب الأهلية هذه في غياب النقد والاعتراض والتظاهر. وبالتالي تبدو صورة البلد مكتملة من مختلف النواحي، ليس فيها فقراً والأكثرية جياع، وليس فيها أمراضاً، والناس لا تملك ثمن الدواء. فيها مدارس وجامعات وليس فيها إبداع أو نشر أو تأليف نقدي، بل فيها أعلى نسب الأمية في العالم. فيها أدب وفن ومسرح بلا روح. فيها اقتصاد وليست فيها تنمية، فيها قوة عمل وليس فيها شغلاً بل اجهزة بيروقراطية واسعة. فيها النصف من النساء، لكن كل امرأة محتلة أو معتقلة عند ذكر الأسرة، الزوج وحتى الابن. أما من يتسنى لها الإفلات من هذا القيد فتتغربن هرباً من قطريات لا تسمح لها بقيادة السيارة وتسمح لها بركوب الحمار والجمل، لا يُسمح لها بالعمل بينما تتاجر في البورصة ولا يسمح لها بالاختلاط لتضطر لاستراق النظر إلى الفضائيات التي تنثر الجنس المكشوف ليل نهار، وفي النهاية يُلقى مبرر اضطهاد المرأة على الإسلام!

هذه الحرب الأهلية، هذا العدوان الطبقي ضروري بما لا يُقاس للطبقة الحاكمة في القطريات لأنه السلاح الوحيد الذي يهدم المشترك القومي ويحول دون مجرد التفكير في الوحدة. فالقطرية مشروع عداء للقومية. عداء مدعوم من المركز الرأسمالي في حقبه من الاستعمار إلى الإمبريالية وحتى العولمة.

ولكن، ما الحل إذا ما قوي عود الطبقات الشعبية فاقتربت من تحقيق الوحدة بين قطر وآخر، أو قرر قطر كبير استعادة كيان صغير إلى حضنه، أو قوي عود الطبقات الشعبية فاقتربت من خلخلة المبنى القطري؟

يكون الحل باستدعاء الاستعمار المباشر. فقد أستدعي في لبنان عام 1958، وجرى تفكيك الوحدة المصرية السورية عام 1963، وتم تدمير مصر الناصرية عام 1967 لأنها بمساعدتها لليمن الجمهوري اقتربت من منابع النفط. وتم تدمير العراق بحجة امتلاك أسلحة الدمار الشامل، كما يجري تفكيك السودان باسم حقوق الإنسان.

بوجود الدولة القطرية العربية، وما تمارسه من حرب أهلية ضد الطبقات الشعبية يكون الرسمي العربي قد اصطف نهائيا إلى جانب المستعمِر ضد الشعبي، ويكون هذا الوطن نموذجاً وصورة أولية نموذجية للمحيط المذرر في حقبة العولمة.

نعم، الحرب الأهلية حرب مختلفة، حرب من نوع خاص، حيث الأكثرية مقموعة من قبل الأقلية المسلحة والرسمية. ولكي يتم التخلص من العدوان الرسمي على الشعبي لا بد من إيقاف الحرب الاهلية على قدميها بدل رأسها، أي إعطاء محتوى ديمقراطياً لهذه الحرب لأنها نضال الأكثرية ضد الأقلية.

القطرية: من التفكيك إلى إسقاط السيادة

بما هي حرب تحرير وطني مجتزأة ومبتورة، وأنتجت دولة رخوة في مختلف المستويات، أي قامت عليها طبقات مبتورة واقتصاد مبتور وحريات مبتورة وجغرافيا مبتورة وقوى سياسية مبتورة كذلك. لذا، كان وليدها اثنين وعشرين إجهاضاً، تفوح منها روائح كريهة من القمع والفقر والأمية واستعباد النساء من الأسرة إلى الجامعة. أما تهمة الاستعباد الذكوري فيسهل نسبها إلى الجامع تحقيقاً لزعيق صامويل هنتنجتون. وباختصار، دخل الوطن العربي مع هذه القطريات الرخوة فترة انتقالية مديدة ومأزومة تمثلت في تشكيلات اجتماعية اقتصادية لا هي رأسمالية ولا هي اشتراكية.

في هذه الفترة الانتقالية المديدة، تمأسست الدولة القطرية بكل ما فيها من هشاشة بنيوياً تكتنف الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع، لتكتشف أن هذا التمأسس لم يكن موظفاً في الأساس من أجلها نفسها، بل موظف لتفكيكها هي أيضا. لرفع حالة سايكس- بيكو إلى مستوى التفكيك والتذرير.

إن التفكيك والتذرير هو المستوى "المكاني" المناسب لحقبة العولمة التي تفكك المجتمعات إلى أفراد وتحول دون التكوين الطبقي. وهذا يتناسب مع مزيد من احتجاز التطور وخلق فئات أكثر تخارجا لصالح الأجنبي، عاجزة عن حسم الاقتصاد والسوق على أسس قومية، هي كمبرادورية بامتياز تضمن بقاء نفسها بتجويع الطبقات الشعبية إلى درجة أقل من التفكير أو القدرة على الثورة.

وهنا نجد أن الاستقطاب قد أخذ مداه. فمقابل أو إلى جانب تركيز المركز، يتم تفكيك المحيط كحيِّز وكطبقات، وهذا مدخل لانتزاع فتيل النضالين القومي والطبقي. وهنا تحل الطائفة محل الطبقة، وتتركز الأبوية مجدداً بعد أن فقدت بعضا من قبضتها في حقبة الأنظمة القومية التقدمية، وتبدو حرب الطوائف كما لو أنها حلّت محل حرب الطبقات، بينما تُشن الحرب على الوطن مكان الحرب على المستعمِر.

في بداية التسعينات من القرن الماضي، تحدث أكثر من مسؤول أميركي واصفاً الأنظمة العربية بالاستقرار والتوازن. وفي منتصف تلك التسعينات، صرح أكثر من مسؤول أميركي بأن أنظمة الحكم العربية بحاجة إلى توسيع قاعدة الحكم بإشراك راس المال الخاص في السلطة. ورأس المال الخاص في أنظمة كمبرادورية هو حليف للمركز الرأسمالي المعولم أكثر مما هو حليف حتى للنخب السياسية "العائلية والعسكرية" الحاكمة وأكثر من تحالف هذه النخب مع سيدها الأجنبي لأن ما يقودها مشروع رأسمالي أما النخب فيقودها ارتباط مأجور بالاجنبي. أي إن توسيع هذه القاعدة، قاعدة الحكم مقصود به إشراك توابع لأمريكا، هم رأس المال التجاري والكمبرادوري، توابع موثوقة بأكثر حتى من النخب السياسية الحاكمة. وفي عملية التوسيع هذه بدأ الحديث عن الديمقراطية وعن الشرق الأوسط الكبير، والمجتمع المدني وحقوق الإنسان...الخ وبما هي طبقات كمبرادورية، فهي أكثر إلى جانب التفكك إلى فئات بل أفراداً. فالكمبرادور ليس طبقة منتجة بالطبع لتدافع عن جامع مشترك أو ليوحدها دورها في العملية الإنتاجية بما أن العمل الاجتماعي هو الأساس في الإنتاج. فالكمبرادور متحور عن التجارة كنشاط فردي أكثر مما هو عليه العمل الصناعي الإنتاجي، بل هو احدث طبعاتها في المحيط. إن النشاط الكمبرادوري فردي في الأساس، مع انه يأخذ حالة طبقية وإن كانت رجراجة ومتغيرة سريعاً، كما أن جامعها هو الارتباط بالمنتِج الأجنبي، وعدائها للمنتِج المحلي. وعموماً، ليس شرطاً أن يكون الوكلاء جماعة، فما بالك بطبقة. ومهما يكن من أمر، فإن الكمبرادور يتحولون إلى طبقة خدماتية وليسوا طبقة منتجة. ومن هنا حضور الأفراد فيها كأفراد من جهة وكمبنى طبقي من جهة ثانية ولكن أقل.

لكن كلمة السر في توسيع قاعدة الحكم، في وضع الوطن العربي خاصة، تكمن في وتنطلق من مجال آخر هو، توزيع وترسيخ مفهوم جديد للسيادة. مفهوم جديد للسيادة يأتي كتواصل أو مواصلة لتدمير المفهوم القومي للأمة العربية.

يقوم مفهوم السيادة في حقبة العولمة على زعم المرونة في الجغرافيا، بل التفريط، على تحويل الأوطان في المحيط إلى مجرد أماكن يتراكم فيها الناس بالصدفة وليس ضمن منظومة قومية محددة الأهداف مشتركة المصالح متبلورة طبقيا ولها مشروع سياسي قومي. قد يزعم البعض مثلا أن السيادة في دول المركز أصبحت مرنة كذلك. لكن هذا غير صحيح، فالسيادة، من حيث هي ممارسة تختلف بين المركز والمحيط. ففي حين يتم تنقل السلع والخدمات وراس المال وحتى العمل من المركز إلى المحيط بكل المرونة الممكنة. ولا أدل على ذلك من غزو الاستثمار الأجنبي المباشر لبلدان المحيط، نجد أن هذا الحراك هو عملياً باتجاه واحد. فليس مسموحاً لعمال المحيط بالانتقال إلى المركز، إلى جانب تعرض من هم في المركز للتمييز والاضطهاد وتنفيس عقد الفاشيست "الجبهات الوطنية". زد على ذلك انه ما من سلع في المحيط مطلوبة في المركز، ولا خدمات بالطبع، وهذا ربما ليس بسبب العنصرية أو الحماية، بل لأن ليس في المحيط إنتاجاً يطلبه السوق العالمي.

وعليه، إذا كانت السيادة ضرورية لحماية الأسواق المحلية من تدفق سلع الأجنبي وقوة عمله وخدماته، فإن هذه ليست ضرورية لبلدان المركز لأن بلدان المحيط لا تملك ما تخترق به الحدود السيادية لبلدان المحيط. وعليه، ليست بلدان المركز في حاجة للتشدد السيادي أو حتى الحمائي طالما هي في حالة توسع خارجي وطالما يأتيها الآخرون كقوة طلب لا قوة عرض.

وحينما يغيب العامل المشترك في توحيد أي بلد، يصبح البديل الفاعل هو التفكيك. التفكيك على أسس اللغة والاثنية، والطائفة. وهي أمور استخدمتها دول المركز في حقبة العولمة مبررة ما يمكننا تسميتها "الموجة الثالثة للقوميات-قوميات العولمة" التي هي في الغالب عميلة لا أكثر[7]. هذا ما حصل في يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي السابق، وهو ما يحصل في العراق، والسودان، وتتم تغذيته في مصر، وإعادة تفجيره في لبنان، وتسريبه إلى سوريا...الخ

على ضوء ما تقدم يمكننا ملاحظة كيف أن الدولة القطرية الرخوة سواء بالفساد أو إعدام التنمية أو عدم بلورة سوق قومي أو تكامل اقتصادي عربي، هذه الدولة قد أسست بخوائها للمشروع الرأسمالي المعولم الجديد وهو تقسيم القطريات العربية من داخلها على أًسس الدين والاثنية والعشيرة والطائفة...الخ إنها حالة التفكيك المجتمعي للقطر من داخله ولا سيما الأقطار العربية ذات الدور والإمكانية المركزية.

لا بل قُصد بتخفيف أو تمييع مفهوم السيادة وقف الدفاع عن الوطن، وتسهيل احتلاله، وكل ذلك وصولاً إلى الثروات والأسواق بسهولة ويسر.

___________

الآراء الواردة في المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي حركة القوميين العرب

المصدر: موقع "كنعان" الالكتروني: mail@kanaanonline.org

حركة القوميين العربmail.sy@raouf-b

جوال 93042463 00963

للإنتقال الى الجزأ الثاني من البحث

للعودة الى الموقع السابق



[1] أما الراحل إدوارد سعيد، فقد ذهب إلى ابعد من هذا كله، فقد رأى حتى المكان عبئاً عليه، وقرر إتِباع مدرسة ثيودور أدرنو المثالية الألمانية في علم الاجتماع التشاؤمي لكل من سيميل وماكس فيبر والمدرسة الفلسفية ذات التوجه الماركسي ل لوكاتش وكارل كورتنس، مقابل هدف الماركسية لإقامة عالم واقعي علمي وإيجابي، فإن مدرسة فرانكفورت فضلت عالما متخيلاً وتشاؤمياً. رأى أدرنو أن فكرة (المنزل -الوطن) تلاشت في القرن العشرين. أما إدوارد سعيد، فرأى أن الأفضل التخلص من هذه الفكرة ليتم التصالح بين الفلسطينيين والصهيونية. والحقيقة أن هذا الموقف لإدوارد سعيد لا يمكن أن ينطبق على حالة الشعب بالفلسطيني المشرد الذي لا وطن ولا مكان له. هو موقف، بقصد أو غير قصد، ينتهي لصالح الغاصبين. انظر مقالة عادل سمارة، مرفوض وهو مفرط بحق العودة، في كنعان العدد 103، تشرين أول 2000، ص ص 5-24

[2] هذا إذا لم يجز لنا اعتبار انظمة الطبقات الحاكمة العربية نمطاً من أنماط الاحتلال.

[3] إثر فوز حماس في الانتخابات اعتمدت أميركا مؤسسة رئاسة سلطة الحكم اذاتي لتلقي التمويل واعتمدت كذلك منظمات الأنجزة في خطوة لتطويق حماس وتفكيك القوى الفلسطينية وإشغال الفلسطينيين في التنافس على التموُّل وليس على النضال. أنظر عادل سمارة، من الاجتهاد الجهادي إلى التنافس على الدعم، جريدة القدس، 6-4-2006، ص 17. أما في مؤتمر القمة العربي في الخرطوم، في آذار 2006، فقد اعتمدت واشنطن رئيس الحكومة اللبنانية ممثلاً لها في ذلك المؤتمر كمنافس لرئيس الجمهورية إميل لحود. وبهذا تكون واشنطن قد نجحت في البدء بالتفكيك الشرعي لكل قطرية على حدة!!

[4] منيت سوق المال السعودية بخسائر بالغة وصلت إلى نحو 1.2 تريليون ريال (320 مليار دولار) خلال الشهرين الماضيين؛ وهو ما أدى إلى تداعي الكثير من المتعاملين بالبورصة. أمير شبانة، إسلام أون لاين. نت 25-4-2006

[5] لذا، يحاولون الأخذ على بن لادن، إدراكه المتأخر بأن ما أُحتلَّ في الجزيرة العربية هو وطنه وليس غرفة نومه، وبأنه استبدل الوطن بالدين بذهابه إلى أفغانستان ليلتفت ورائه وقد فقد وطنه وهو "يحرر" افغانستان! ولكن بن لادن انتقل من خلل في الفهم إلى آخر . فليس الحل في استبدال الوطن بالدين، ولا العكس، وإنما في توظيف الدين لحماية الوطن.

[6] نظراً لهشاشة القطاع الخاص في هذه البلدان، ورفض الدولة خلق قطاع عام، توجه الكثيرون هناك إلى المضاربات المالية مما افقد هذه البلدان ما كسبته من ريع النفط في العامين الاخيرين. والطريف ان المرأة في الخليج ممنوعة من العمل ولكن مسموح لها المضاربة.

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

  

Webster's Online Dictionary
with Multilingual Thesaurus Translation

     

  English      Non-English
eXTReMe Tracker