الوطنية الصعبة - منصور الاطرش: بقلم الاستاذ معن بّشور
الوطنية الصعبة :
منصور الاطرش
مـعـن بشّــور
بين كل الالقاب الرسمية والحزبية والشعبية الرفيعة التي حظي بها منصور سلطان الاطرش كان لقب "مزارع" الأحب الى قلبه، يدونه الى جانب اسمه في كل مؤتمر او ندوة او اجتماع يحضره، اما مزرعته في جوار بلدته" القرّية" في جبل العرب فقد تعلّق بها في السنوات الاخيرة الى درجه انه اوصى ان يدفن فيها بعد رحيله، حتى قال بعض اصدقائه انه اراد ان يجعل من مزرعته وطناً بعد ان جعل الكثير من الساسة في بلاد العرب اوطانهم مزارع لهم.
"للباشا"، كما يحب المقربون به ان ينادوه في تأكيد على علاقة أي ثائر بوالده سلطان باشا، صفات جميلة لكن ابرزها هي التواضع المعبر عن ثقة كبيرة بالنفس، بالبيت الذي ولد فيه، بالبيئة التي احتضنته، بالأمة التي جنّد نفسه وكرّس حياته لحمل "رسالتها الخالدة"، بالمناصب التي ترّفع عنها بسبب مبادئه، وبالمواقع التي رفعها حين تبوأها، ولا أنسى كيف زرناه يوماً في صيف 1965، وكان رئيساً للمجلس الوطني في سوريا، وعضواً في القيادة القومية لحزب البعث، وكنا طلاباً في الجامعة الامريكية، بشارة مرهج، منصور حريق وأنا، فاذ به يدعونا الى سيارته "الفولسفاكن" التي كان يقودها بنفسه، ويجول بنا في شوارع دمشق ومعالمها يعّرفنا اليها، ويحدثنا في الوقت ذاته باحوال الحزب والوطن والأمة.
ومنذ ان بدأت الاعاصير تهب على العراق في مطلع التسعينات، جاء ابو ثائر الى بيروت ليلاً، ومعه رفيق عمره ونضاله الدكتور حسن مريود، نجل المجاهد السوري الشهيد احمد مريود، ووزير خارجية سوريا السابق، ودقّا باب منزلي في ساعة متأخرة من احدى ليالي الشتاء في عام 1992 ليحملا اليّ بيانا – جاءا به للتو من عمّان – يدعو كونفدرالية عربية بين سوريا والعراق والاردن وقعه ثلاث شخصيات قومية من كل قطر من الاقطار المعنية مع ثلاثة من العاملين في الشأن القومي العربي في لبنان.
حين سألته ورفيقه عن داعي هذه العجلة قال الباشا – رحمه الله – نريد ان يصدر البيان في كل العواصم في يوم واحد، ولا بد ان نعود الان الى دمشق (وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل).
ربما كانا الرجلان في عجلتهما آنذاك يودان استعادة لحظات حميمية من زمن النضال، حيث توزع البيانات والمنشورات الحزبية تحت جنح الظلام، وحيث تعقد الاجتماعات بعد ان تكون "العيون الساهرة" قد أغمضت جفونها عن مراقبة الناس ومتابعتها، ولكن ما هو مؤكد حتماً ان روح المقاومة والوحدة كانت ايضاً وراء اشتعال همّة الرجلين اللذين كانا على مشارف السبعين من العمر.
حين بدأ الحصار على العراق واشتد، وكان الخلاف بين دمشق وبغداد ما زال على أشده، رأى منصور الاطرش وحفنة من رفاقه ان يقوموا بعمل ما من اجل العراق داخل سوريا، فأسسوا – وسط دهشة كثيرين – اللجنة الشعبية السورية لفك الحصار عن العراق- التي تحّولت بعد احتلال العراق الى "تجمع لجان نصرة العراق" بعد ان عمت لجانها كل أرجاء سوريا في اول مبادرة جادة لقيام عمل أهلي مستقل عن الواقع الرسمي في سوريا ولكن دون ممانعة من هذا الواقع.
حين التقيته بعد تشكيل تلك اللجنة وعن مستقبلها ودورها ضحك الباشا، وهو الممتلئ ظرفاً ودماثة وذكاء، وقال: "يبدو اننا بدأنا حياتنا النضالية ونحن عاملون في لجان نصرة العراق(لجان تأسست في سوريا عقب ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 لنصرة الثورة العراقية ضد المستعمر البريطاني والتي اعتبرها كثيرون النواة الشعبية لحزب البعث الذي تأسس رسمياً في نيسان 1947 وكان منصور الأطرش من المؤسسين)، ويبدو اننا سنغادر هذه الدنيا ونحن نعمل في لجان نصرة العراق".
طبعاً لم يكن العراق وحده شاغل ابي ثائر ورفاقه، بل كانت ايضاً الانتفاضة الشعبية الفلسطينية حيث كان من مؤسسي لجان دعمها في سوريا، وكذلك المقاومة اللبنانية التي طالما كان منصور يعتز ان الذي اشعل فتيل الثورة السورية الكبرى عام 1925، هو ان الفرنسيين الذين كانوا يطاردون المقاوم الجنوبي العاملي الشهيد ادهم خنجر الذي لجأ الى بيت سلطان باشا الاطرش في "القرية" قاموا باقتحام المنزل لاعتقال خنجر في غياب صاحب البيت ودون مراعاة حرمته، فلما علم سلطان باشا بالامر احرق "البيت" الذي لم يحم المحتمي به، واشعل الثورة في بادرة تكشف عن عمق العلاقة بين الوطنية والشهامة، بين جبل العرب في سوريا وجبل عامل في لبنان،
هموم الامة على كثرتها لم تصرف منصور الاطرش، وهو القومي العربي الديمقراطي عن الدعوة الى المشاركة والتطور الديمقراطي خصوصاً وانه شارك بفعالية في الحياة السياسية السورية، فانتخب نائباً اكثر من مرة، ورفض الوزارة حيث عين وزيراً في عهد الانفصال عام 1961، وقبلها بعد ثورة 8 آذار الوحدوية عام 1963، وكانت له مواقف نقدية واضحة داخل تجربته البعثية ادخلته السجن لعام ونصف في اواسط الستينات، ليخرج بعدها معتمداً اسلوب الحوار مع القيادات البعثية داخل الحكم وخارجه، وفي مقدمهم الرئيس الراحل حافظ الاسد والرئيس الدكتور بشار الاسد مشدداً على التوازن الدقيق بين اهمية الوحدة الوطنية لمواجهة الضغوط والتهديدات الخارجية وبين ضرورة تحصين الجبهة الداخلية وتعميق الحوار الوطني وتوسيع افق المشاركة الشعبية، مقترحاً فكرة تشكيل مجلس شورى يضم في صفوفه شيوخ الفكر والسياسة والنضال في سوريا للاستفادة من خبراتهم وتجاربهم.
كانت "الوطنية الصعبة" هي التي اختارها ابو ثائر نهجاً لحياته، فاسيء فهمه من هذا الطرف او ذاك، فاغضب البعض لانه لم يقتنع بأن مقاومة التهديدات والضغوط الاستعمارية لا تحول دون اعتماد نهج الانفتاح وتوسيع قاعدة المشاركة الوطنية، وأغضب البعض الآخر لأنه رفض دوماً ان تكون دعاوى الديمقراطية والاصلاح السياسي مبرراً للجوء الى الخارج والاستقواء به على وطنه او السكوت عن مؤامراته.
ولقد كانت "خطبة" منصور الاطرش في العشاء التكريمي الذي اقامه له المنتدى القومي العربي في لبنان قبل ثلاثة اعوام نموذجاً دقيقاً وعميقاً لهذه "الوطنية الصعبة" بل "العروبة الصعبة" التي تشق طريقها بعناد وسط شراسة الاعداء وقسوة الشركاء الذي ينسى بعض من يصل منهم الى السلطة تلك الحكمة المشهورة "صديقك من صدِقك"...
أهمية منصور الاطرش انه بقي، كالكثير من ابناء جيله، الصديق الصدوق للجميع حتى النفس الاخير .. رحمه الله. لهذا لا عجب ان تجتمع اليوم في وداعه شخصيات من كل الوان الطيف السياسي السوري والعربي، داخل الحكم وخارجه فهو الجامع يوم وداعه بين من كان يطمح الى جمعه طيلة حياته.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home