ينابيع البعث : مم يتشكل الفكر البعثي ؟- الجزأ الثـانـي
ينابيع البعث : مم يتشكل الفكر البعثي ؟
حقائق واوهام
صلاح المختار
الجزأ الثاني والاخير
المفهوم البعثي للحرية
بخلاف ما سيدته حملة شيطنة البعث ، التي تشنها الاجهزة الغربية والصهيوينة والايرانية وتوابعها العرب ، فان البعث قد حدد للحرية مسارا رئيسيا داخل صفوفه وفي المجتمع حول الحرية . يقول دستور الحزب في (المبدإ الثاني) ما يلي : ( ولهذا فان حزب البعث العربي الاشتراكي يعتبر : 1 – حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لاي سلطة ان تنتقصها ) . وفي فصل (مبادئ عامة ) ، في الفقرة 5 يرد ما يلي : ( حزب (البعث العربي الاشتراكي ) شعبي يؤمن بان السيادة هي ملك الشعب وانه وحده مصدر كل سلطة وقيادة ، وان قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن ارادة الجماهير ، كما ان قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها ) . وفي فصل (المنهاج سياسة الحزب الداخلية ) نقرأ ما يلي : ( المادة 14 – نظام الحكم في الدولة العربية هو نظام نيابي دستوري والسلطة التنفيذية مسؤولة امام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب مباشرة . ) .
وفي المادة 17 من نفس الفصل نقرأ ما يلي : ( يعمل الحزب على تعميم الروح الشعبية ( حكم الشعب ) وجعلها حقيقة حية في الحياة الفردية ، ويسعى الى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة امام القانون والتعبير بملء الحرية عن ارادتهم واختيار ممثليهم اختيارا صادقا ويهيئ لهم بذلك حياة حرة ضمن نطاق القوانين .) وفي فصل (سياسة الحزب الاجتماعية ) نقرأ في البند الخامس ما يلي : ( تاليف نقابات حرة للعمال والفلاحين وتشجيعها لتصبح أداة صالحة للدفاع عن حقوقهم ورفع مستواهم وتعهد كفاءاتهم وزيادة الفرص الممنوحة لهم ، وخلق روح التضامن بينهم وتمثيلهم في محاكم العمل العليا ) .
وفي المادة 42 من نفس الفصل ، نقرأ في البند الثاني ما يلي : ( الدولة مسؤولة عن صيانة حرية القول والنشر والاجتماع والاحتجاج والصحافة ، في حدود المصلحة العربية العليا ، وتقديم كل الوسائل والامكانيات التي تحقق هذه الحرية .) . وفي البند الثالث نقرأ ما يلي : ( العمل الفكري من اقدس انواع العمل وعلى الدولة ان تحمي المفكرين والعلماء وتشجيعهم .) . وفي البند الرابع نقرأ ما يلي : ( فسح المجال ، في حدود الفكرة القومية العربية ، لتأسيس النوادي وتأليف الجمعيات والاحزاب ومنظمات الشباب ومؤسسات السياحة والاستفادة من السينما والاذاعة والتلفزة وكل وسائل المدنية الحديثة في تعميم الثقافة القومية وترقية الشعب .) .
ما معنى هذا ؟ اولا يجب ان نلفت الانتباه الى مؤشر مهم جدا وهو ان دستور الحزب لم يستخدم عمدا كلمة (ديمقراطية) ابدا واستعاض عنها بتعبير اوسع واعمق وهو (الشعبية) ، لان الشعبية تتجاوز حدود الديمقراطية بكثير . اما بخصوص ما اوردناه من نصوص فلا حاجة لشرح ما عرضناه لانه واضح ، وكل ما يجب فعله هو تثبيت حقيقة اساسية وهي البعث ، في اصوله التكوينية ، حركة انسانية تقدس حرية الانسان بل ان موقف البعث يصل حد الليبرالية كما راينا . وهذا التقديس لحرية الانسان لا يقتصر كما في الليبرالية على حرية التعبير والحريات الفردية بل هو يشمل الاهم وهو حق الحياة الحرة الكريمة المتحررة من العوز المادي والروحي . من هنا فان المفهوم البعثي للحرية والديمقراطية عتيق وتضرب جذوره في اصول البعث التكوينية ، وهو لذلك مقوم ثابت لا يمكن تغييره ، حتى لو شهدت التجارب العملية ابتعادا عنه ، جزئيا او كليا ، احيانا لاسباب قاهرة ، في مقدمتها ان خصوم ومنافسي واعداء البعث في الداخل والخارج قد فرضوا فرضا حالة الطوارئ والاحتراب والازمة مما سمح ببروز رد فعل طوارئ ايضا . ان حالة الطوارئ الناجمة عن التحدي الخطير لا تمحي الهوية الجوهرية للحركة التاريخية بل تؤخرها وتحجمها وتعطلها ولكن الى حين ، بعدها يفرض الاصل نفسه وتتجدد الحياة الحرة والتفكير الحر وتقديس حرية التعبير داخل الحزب وخارجه ، لان الحرية قضية واحدة وتفسد حينما تجزء الى حرية داخلية وخارجية .
المفهوم البعثي للاسلام : اسلام بلا طوائف
لئن كنا نواجه منذ الاربعينيات جدلا مع التيارات الدينية السياسية حول الاسلام ودوره في المجتمع ، وادى ذلك الى مشاحنات وصراعات غير مبررة بين التيار القومي والتيارات الاسلامية السياسية ، فان مرحلة ما بعد غزو العراق قد اثبتت ، واقعيا وعمليا ، ان مفهوم البعث للاسلام كان هو الصحيح وان الاخرين لديهم مفاهيم اما ملتبسة او ضارة ومدمرة . كيف فهم البعث الاسلام ؟ وما معنى العلمانية في الفكر البعثي ؟ هل هي نفس العلمانية الغربية ؟ ام انها الية احترازية لمنع استغلال الدين في السياسة لان في ذلك اضرار فادحة كما اثبتت تجربة العراق في ظل الاحتلال ؟
بداية البعث كانت الموقف الخالد للبعث : ( كان محمدا كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدا ) . من قال هذا الكلام البليغ والدقيق دقة لا مثيل لها في التعبير عن فكرة في كل الكتب الارضية ؟ من قاله لم يكن منظر اسلاموي ولا فقيه ولا صانع فتاوى دينية بل قاله مناضل عربي مسيحي هو المرحوم القائد المؤسس للبعث احمد ميشيل عفلق . كيف نجح مسيحي عربي في تحديد الصلة الاعمق والادوم بين الشعب العربي ونبيه الكريم ؟ ولماذا لم يلهم الله وهو قادر على ذلك مفكرا ومفتيا مسلما لطرح هذه المعادلة التي لا تلخيص لصلة العربي بنبيه او بالاسلام ادق واعظم وافصح منها ؟ لقد طرحت في دراستي ( الصليبية الجديدة ) الجواب على هذه الاسئلة وغيرها ، ولاهمية ودقة الموضوع ساعيد طرح الاجوبة لان لها مساسا مباشرا وجوهريا باوضاعنا الحالية .
ان الاسلام هو مزيج خلاق وطبيعي من الجانب الايجابي من ثقافة وتقاليد العرب قبل الجاهلية وبين تعاليم ربانية مقدسة ، فالدين اي دين لا يمكن ان ينشأ ويتوسع الا اذا فهمته طلائع من هذه البيئة وتبنته مرشدا لها . لذلك فان النبي والصحابة كانوا هم الطليعة التي استوعبت الاسلام وحملته رسالة لها دون ان تشعر بالغربة او انها تدخل بيئة غريبة عنها . نعم كانت في الجاهلية تقاليد وثقافة سلبية جاء الاسلام للقضاء عليها ، ولكن بنفس الوقت كانت هناك ايجابيات في مجتمع الجزيرة ، وفي مقدمتها ثقافة التوحيد والقيم التضامنية في القبيلة وهي قيم انسانية راقية تتمثل في الكرامة والكرم والتسامح واحترام الاخر والشورى القبلية ، واللغة العربية التي كانت وما زالت التي تشكل عالما كبيرا قائما بذاته ، سحريا بموسيقاه ومضامينه الثرية ومعانيه الشاملة الخالدة وفنونه كالشعر ، ديوان العرب وحافظ تاريخهم وجهاز اعلامهم الاول ...الخ . لقد جاءت الرسالة السماوية لتغليب هذه القيم وهذه الثقافة واكمالها ودمجها باخر وارقى صور ثقافة التوحيد وهي الاسلام . من هنا فان الاسلام لم يكن دينا فحسب بل كان قبل ذلك ثقافة وقيم منتشرة في جزيرة العرب واطرافها في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ومصر . وكان من مفاخر العرب ان العربي المسيحي كان يقف مع العربي الاخر غير المسيحي ضد غزوات الاجانب كالفرس والرومان قبل الاسلام ، وبعد الاسلام وقف المسيحي العربي ضد الصليبيين وغيرهم ، منطلقا من انتماء الجميع ، مسلمين ومسيحيين ، لثقافة قومية سائدة بين القبائل العربية المختلفة الديانة . ومن الحقائق ذات الدلالات العميقة ان بعض المسلمين ، كالعلقمي ، قد تعاونوا مع الصليبيين والتتار لتدمير الدولة العربية الاسلامية خدمة لبلاد فارس ! فما الذي يجعل المسيحي العربي ينتخي للمسلم العربي ، في حين ان المسلم الصفوي يغدر بالمسلم الاخر ويتعاون مع اعداء الاسلام ؟ أنه الثقافة القومية العربية والوعي القومي العربي هو الذي جعل المسيحي العربي يقف مع المسلم العربي ضد غزوات تبرقعت باسم المسيحية . كما ان الثقافة القومية الفارسية – الطائفية للصفويين العرب ، او ذوي الاصول الفارسية ، هي التي جعلتهم ينحازون لاعداء المسلمين من اجل تدمير ملك العرب وخلافتهم للتمهيد لامبراطورية بني فارس ! هذه ما حصل بالامس حينما تعاون الصفويون مع التتار والصليبيين ضد العرب المسلمين ، وهو ما يحصل اليوم حيث نجد الصفويين العرب والفرس يقفون مع امريكا ضد الامة العربية في العراق وغيره لتدمير حصون العرب وتذويب الهوية القومية للامة العربية .
لقد جاء الاسلام تعبيرا شرعيا ومطلوبا عن ثقافة العرب في جانبها الايجابي على صعيد الحياة الدنيوية ، و( هزة حيوية ) ، القت بعيدا بثقافة الشرك والظلام واحلت محلها ثقافة التوحيد ، التي عبرت عن ارتقاء هذه الرسالة بعد تجارب الديانتين التوحيدتين اليهودية والمسيحية وتهيئتهما للبشر لدخول عالم الاسلام ، في فترات استغرقت اكثر من الفي عام ، انتقل فيها البشر من الديانات الوثنية البدائية ، التي كانت نتاج الخوف من الطبيعة والكون اكثر من الايمان بالله الى ديانات التوحيدي ابراهيم الخليل العراقي المولد والثقافة . بهذا التدرج التربوي نجح الاسلام في هضم وتجاوز كل الثقافات التي كانت سائدة قبله وصار دينا متبلورا بعد ان كان ثقافة قومية سائدة فقط . في هذه البيئة القومية عاش عفلق ، وملايين العرب المسيحيين ، مؤمنا بالله وابنا شرعيا للثقافة العربية ومواطنا عربيا بارا ، خصوصا لجزئها المقوم وهو الاسلام . ان الاسلام ليس دينا فقط ، كما راينا ، بل هو ايضا ثقافة قومية للعرب تشكل روح الامة ، والامم بدون الروح محض ( لحظات ) عابرة وضائعة في كون لا نهائي وبالغ التعقيد .
البعث التقط هذه اللحظة التاريخية (اللحظة بمعناها الفلسفي وليس الزمني اي القوة التي تنقلنا من حالة الى حالة اخرى بزخم انقلابي شامل ) واختار ان يكون حزبا قوميا عربيا ، لانه يعيش في بيئة عربية ويمثل تطلعات امة عربية ، لكنه دمج الاسلام عضويا بالقومية العربية بتاكيده ان العروبة جسد روحه الاسلام . بهذه التوليفة العبقرية اعاد عفلق تحديد صلة الاسلام بالعروبة على نحو مدهش في دقته المبدأية واللغوية . فاولئك الذين حاولوا وضع تعارض بين العروبة والاسلام باسم الاسلام وقعوا في فخ الجمود وعدم القدرة على فهم روح الاسلام ، فاوجدوا منظومة فكرية ساذجة ، لان التخلف في الفهم لا يجد مخرجا له سوى السذاجة التكفيرية التي تحل الاشكالات المعقدة بطريقة كاريكيتيرية مدمرة للفكر الخلاق وللحلول الصحية . البعث اكتشف ما انقطع المسلمون عن الايمان به والتعامل به منذ انحطت الخلافة الاسلامية واصبح الاسلام غريبا في داره ، وهو ان القومية العربية بلا الاسلام ما هي الا جسد مادي سياتي يوم يموت فيه كما يموت اي جسد ، لذلك وللحفاظ على ديمومة القومية العربية كان لابد ان تكون لها روح تميزها عن موجة القوميات الوظيفية التي ظهرت في اوربا ، فكانت عملية اعادة البعث اكتشاف جوهر كل من العروبة والاسلام بالدمج العضوي بينهما . لقد عادت الروح الى جسد الامة بعد ان فارقتها بانحراف الخلافة وتدهورها ، وحطت روح الامة ( الاسلام ) في جسد مادي هو القومية العربية ، كي تستطيع ان تتعامل مع عالم مادي بفعالية تامة ونجاح محسوب من خلال طليعة مقاتلة هي الحركة البعثية .
اننا نحن البعثيون ، المسلمون في ثقافتنا القومية مهما كانت ديانتنا ، فتحنا طريق البعث الاسلامي الحقيقي من خلال فتحنا الاول وهو فتح البعث العربي ، فلن يكون هناك بعث اسلامي من دون ان يسبقه البعث العربي . هذا ماحصل عند ظهور الاسلام والذي اقترن ببعث عربي شامل وحد العرب ، اولا وقبل كل شيء ووضع القبلية في الخلف ، ثم قام العرب ببناء عالم اسلامي وحضارة عربية توجت بقيم الاسلام امتدت من الصين الى اوربا ، وما كان بالامكان قيام هذه الدولة الاعظم في وقتها لولا الايمان العميق بان للعرب رسالة خالدة انسانية الطبيعة توحيدية الجوهر . ان الصحابة والفاتحين الاوائل كانوا رجال مهمات تاريخية وحملة رسالة خالدة ولم يكونوا دعاة سياسة او فتوحات امبراطورية هدفها النهب او السيطرة ، كما فعلت امبراطوريات سادت ثم بادت كالامبراطورية الفارسية ، لانها بلا رسالة روحية وانسانية وانما كانت محض توسع لصوصي لا محرك له سوى الناسوت وبغياب تام للاهوت .
اذن البعث حزب ايماني في اصله وجذوره ، وهو المؤهل اكثر من غيره للبعث الاسلامي ولكن بعد تحقيق البعث العربي وليس قبل ذلك ابدا . وهذا الكلام ليس دعاية حزبية بل هو واقع عاشه العراقيون عندما استلم البعث السلطة ، وكان دستوره متوجا ببند غالب وهو ( الاسلام هو المصدر الاساسي للتشريع ) وليس مصدرا من مصادر التشريع ، وهذا المفهوم مهم وجوهري . كما ان الممارسة العملية قد شهدت اعظم رعاية للدين والعلماء ، تمثلت في تحمل كل اعباء رعاية دور العبادة ، الاسلامية والمسيحية والصابئية وغيرها ، وتخصيص رواتب تساوي راتب الوزير للمراجع الدينية اضافة لكافة الامتيازات المالية والاعتبارية في المجتمع . وشهد العراق لاول مرة في تاريخه حملة ايمانية منظمة وطويلة الامد شملت كوادر الحزب والدولة وصار بموجبها التثقف بالفقه الاسلامي وختام القران شرطا للترقية الحزبية والوظيفية ، فانخرط ملايين البعثيين في الحملة الايمانية الفريدة في التاريخ العربي والاسلامي الحديثين .
في ضوء ما تقدم نجد ان البعث حزب مؤمن بطبيعة بنيانه العقائدي ولا صلة تربطه باي شكل مع العلمانية الغربية والتي سجنت الدين ورجاله في الكنيسة ومنعتهم من التدخل في السياسة ، لكنه ونظرا للتعددية في المذاهب الاسلامية ، من جهة وتعددية الديانات للمواطنين العرب من جهة ثانية ، فان حكم رجل الدين بالنسبة للبعث امرا خطيرا ومدمرا للوطن ووحدته وللاسلام ووحدته وللمواطنة ودورها . ان الاسلام يعاني من تعددية المذاهب سنية وشيعية ، ولو كانت هذه التعددية مجرد اجتهادات ومدراس فقهية يكمل بعضها البعض الاخر لامكن تقبل الامر ، لكن الامر المعقد هو اننا لا نتعامل مع طوائف وجودها طبيعي بل مع طائفية انعزالية وتكفيرية واقصائية في كلا طرفي الاسلام ، ومن المستحيل ان تتفاهم فيما بينها على مستوى الواقع وليس على مستوى ظواهر الامور . ولكي نتجنب السرد والتنظير لدينا مشهد حاسم وواضح بما يكفي لادراك مخاطر التعدد الطائفي وانتاجه الحتمي للطائفية كلما ضعفت الرابطة القومية او الوطنية .
لقد قدمت لنا تجربة العراق المحتل صورة حقيقية لمخاطر الطائفية نرى انها حسمت الى الابد الجدل حول حكم رجال الدين والمرجعيات الدينية ، فلقد حصل الاحتلال بفضل تعاون الطائفية الصفوية ، ممثلة بالحوزة الصفوية الايرانية في النجف والتنظيمات التابعة لايران ، والاحزاب الطائفية السنية ممثلة بالحزب الاسلامي ، وكانت تلك اول خطيئة لا يمكن غفرانها لكلا الطرفين لان التعاون مع الاستعمار الامريكي المدفوع بتاثير صهيوني واضح وثابت اضافة للدافع الراسمالي اللصوصي ، انما هو خروج فاضح على كل قواعد الدين والوطنية . دافع الصفويين كان خدمة المصالح الايرانية التي حددتها الزعامة الايرانية بوضوح وهي تدمير العراق العربي المستقل وتقاسمه مع امريكا واسرائيل ، في حين ان دافع التنظيمات السنية الطائفية كان تدمير البعث والقضاء على نظامه الوطني ! هذا الخروج على الدين لم يكن الخطيئة الوحيدة بل انه انتج الخطئة الثانية وهي التعامل مع الوضع العراقي على اساس طائفي ، فكلا التيارين الصفوي والطائفي السني اراد ان يفرض مفهومه للاسلام ، فحصل الصدام بينهما وكفر احدهما الاخر واصبح من المستحيل توافقهما .
ان كل حزب ينشأ على اساس طائفي في الاسلام لابد وان يواجه حتمية لا مفر منها وهي تكفير الطرف الاخر علنا او سرا ، وهكذا راينا الطائفية الصفوية تعد السنة بصفة عامة نواصب سرقوا الاسلام من اهله ولابد من القضاء عليهم لاجل اعادته الى اهله ! اما الطرف الطائفي السني فقد عد الشيعة العراقيون روافض خارجين على الاسلام ولابد من تصفيتهم بهذه الطريقة او تلك ! لقد شهد العراق في ظل الاحتلال محاولات متعمدة لاحداث فتنة طائفية كبرى من خلال الاعداد والدعوة لتصفيات دموية طائفية اساسها التكفير ، وكان يمكن ان تكون كارثة لا نظير لها لولا المقاومة الوطنية العراقية التي حددت هدفها في تحرير العراق كله ، وضمت في صفوفها كل الاطياف العراقية مما ادى الى تحجيم مشروع تمزيق العراق على اسس طائفية . لقد جرت الطائفية المتقابلة العراق الى كوارث انسانية لم تحصل في كل تاريخه واستنزفت قسما كبيرا من طاقات العراقيين في القتال بين هذه الجماعات التكفيرية في الطرفين بينما كان ممكنا ان تضاف هذه الطاقات للحملة الوطنية العظمى لتحرير العراق التي تقوم بها المقاومة .
ماذا كانت النتيجة ؟ حفر خندقان طائفيان لا يلتقيان ابدا حولا الصراع من صراع تحرري الى صراع بين عراقيين ! وهذه اعظم خدمة قدمت للاحتلال بعد تسهيل غزوه ! ومن الملاحظات الخطيرة التي تؤكد ان الطائفية تنتج الخيانة اشهار الطائفيين من الطرفين لمواقفهما الحقيقية ، وممارسة كافة اشكال التحقير والشتائم فيما بينهما لدرجة ان الصفويين تعاونوا ويتعاونون مع الاحتلال لنصرة مذهبهم ومقابل ذلك تعاون الطائفيون السنة مع الاحتلال اولا لتدمير العراق وثانيا للقضاء على الشيعة ! هذا هو بؤس الفكر والتفكير الديني الطائفي ، وتلك نتائجه الحتمية وقانونه المطلق .
ما جرى اعاد طرح السؤال المنطقي التالي : اذا افترضنا ان الاحزاب الدينية السنية والشيعية وصلت للحكم فماذا سيحدث ؟ هل ستتمكن من الاتفاق على الحكم بشكل مشترك ؟ الجواب الذي اكدته التجربة العراقية هو ان افضل ما تتمناه اسرائيل والغرب هو وصول احزاب اسلامية للحكم ، لان الطريق الوحيد الذي ستسلكه هو تطبيق مفاهيمها الطائفية وهو موقف سيخلق رد فعل طائفي من الطرف الاخر وهكذا ينغمس المسلمون في صراع حول من يمثل الاسلام حقا . ان من المستحل تصور امكانية تخلي حزب او جماعة طائفية عن مسلكها او اهدافها والا لم نشأت اصلا الطوائف ؟ اننا بازاء مشكلة عملية وفقهية وهي انه لا يوجد تفسير للاسلام متفق عليه بين الطوائف الاسلامية ومن ثم فان سعي هذه الاحزاب لاستلام السلطة هو سير مفتوح نحو الاصطراع الاسلامي – الاسلامي . ربما يقول البعض ان هذا المنطق ان انطبق على العراق لانه منقسم الى شيعة وسنة وبنسبة متقاربة ، فانه لا يصلح لاقطار اخرى يشكل السنة فيها الاغلبية . وهذا المنطق دحضته الاحداث الاخيرة ، فاولا لا يجوز في الاسلام الحديث عن الاغلبية والاقلية لان الجميع متساوين بمعاييره وبمعايير الوطنية والمواطنة ، وثانيا ان الحركة الصفوية تقابلها التيارات الطائفية السنية تتنافس على تبشيرها الطائفي وتصرف مليارات الدولارات لشراء الناس او لاقناعهم بالتخلي عن طائفتهم . انظروا الى التحرك الايراني في سوريا مثلا ، حيث الاغلبية سنية ماذا يحدث ؟ ايران تصرف الملايين شهريا لشراء فقراء السوريين بالمال لتغيير طائفتهم ! انظروا لمصر السنية والتي زجت زجا في حربين تتصاعدان منذ رحيل المرحوم جمال عبدالناصر ، فهناك حرب كلامية تتخللها صدامات بين المسلمين والاقباط ، وهناك محاولات نشطة لخلق طائفة شيعية في مصر !
وفي المغرب العربي هناك نشاط ايراني واضح جدا لنشر التشيع الصفوي ، يقابله نشاط محموم للطائفية السنية للحفاظ على التسنن وعدم السماح بالتبشير الصفوي ! لقد جرت الطائفية الامة العربية لظروف هي الاسوأ والاخطر في كل التاريخ الاسلامي ، لدرجة ان التامر الصهيوني الغربي وتنفيذ مخططات تقسيم واحتلال اقطار عربية والاعداد لاحتلال اخرى لم يردع الطائفيين ويدفعهم لتوحيد الصفوف لمواجهة اعداء الاسلام ، والذي حصل هو العكس تماما ، فالطائفية الصفوية تعاونت وتتعاون مع امريكا ضد العراق والسنة ، والطائفية السنية تتعاون مع نفس الطرف وهو امريكا للقضاء على التوسعية الصفوية الايرانية ! فاي غباء هذا الذي يجعل الطائفيين من مختلف الجهات يرى انه يتعاون مع اعداء الاسلام ضد مسلمين ومع ذلك لا يتراجع ! وفي خضم الصراع مع امريكا والصهيونية تتوغل الطائفية السنية والشيعية في مجاهيل اللاعقلانية فتكفر البعثيين رغم انهم يخوضون صراع الحسم مع امريكا والصهيونية ! وهذا يعني ان الطائفية حالما تبدأ الياتها الذاتية بالعمل تجد نفسها عاجزة عن ايقاف دوران عجلة التكفير حتى للسلفيين والطائفيين من نفس الجماعة ! انها لعنة التفتيت والشرذمة التي اصابت تنظيمات لاترى ابعد من انفها .
وفي ضوء ما تقدم يطرح السؤال التالي : ما الحل ؟ هل نتخلى عن الاسلام بسبب هذا الخلل البنيوي في التنظيمات الاسلامية ؟ الجواب هو كلا ، فالامة لا تستطيع التخلي عن روحها وهو الاسلام ، وما يجب فعله هو تحرير الاسلام من السرطان الطائفي عبر العمل من اجل اسلام بلا طوائف ، اسلام عام مصدره الاساس القران ، وما يتقف عليه المسلمون من السنة النبوية في ضوء ما ورد في القران . كيف ذلك ؟ وماهو الطريق العملي للوصول اليه ؟ هنا نصل الى الفهم البعثي للاسلام . نعم لقد دعا البعث للعلمانية ولكن اي علمانية ؟ انها علمانية عزل الطائفية عن تطبيق الاسلام سياسيا من خلال اعتماد دستور الدولة على الاسلام العام المجرد من الطوائف بصفته المصدر الرئيس للتشريع ، لان هذا الاعتماد يفرض حتمية لا يمكن التملص منها وهي نزع المفاهيم الطائفية من الاسلام ليكون قاعدة التشريع الاساسية وتجنب كل ما من شانه اثارة الفتن بين المسلمين . ويمكن تطبيق ذلك بجعل الانتماء لطائفة امرا شخصيا او خاصا لا يدخل في اطار الاسلام المعتمد قاعدة للتشريع في الدولة ، وهذا ينطبق على غير المسلمين ، فالدولة هي لكل الشعب وليس لطائفة منه مهما كانت صغيرة او كبيرة ، والواجب الديني والوطني والقومي يفرض على الدولة ان تمثل الجميع مواطنيها ، وان تتجنب كل ما من شانه التمييز بين المواطنين على اي اساس غير المواطنة والمساواة امام القانون .
وهنا يجب ان نوضح بان رجال الدين وبسبب انتماءهم الى طائفة ما لا يصلحون لتولي الحكم مباشرة لانهم سيواجهون مشكلة فقه وموقف اي طائفة يعتمدون ؟ لكن ذلك لا يحرمهم من حق ممارسة السياسة بصفتهم مواطنين وتوليهم المسؤوليات العامة في الدولة . بهذه الطريقة فقط يمكن التخلص من سرطان الطائفية ونحافظ على وحدة الاسلام والوطن ونمنع اقتتال المسلمين . هذا هو الفهم البعثي للاسلام وهذا هو المعنى الدقيق للعلمانية البعثية ، والتي بخلاف علمانية اوربا لا تتجه لعزل الدين عن الدولة ما دامت الدولة طبقا للبعث عمادها الاساس في التشريع هو الاسلام ، بل لعزل الطائفية وحصرهافي مناطق خاصة وشخصية ، وليس تصفيتها ، لتجنب الانقسامات والصراعات الطائفية .
بماذا تتميز اشتراكية البعث ؟
نأتي الان الى اخر مصادر وينابيع البعث وهو الاشتراكية ، والتي لفقت الرجعية الدينية ضدها القصص والاقاويل الباطلة خدمة لانظمة فاسدة ومفسدة . كيف يفهم البعث الاشتراكية ؟ وهل هي تختلف عن الاشتراكية الشيوعية ؟ واذا كان الجواب نعم يطرح سؤال اخر : كيف تختلف واين ؟ قبل الاجابة على هذه الاسئلة من الضروري تحديد معنى الاشتراكية لانها ظلمت من قبل التيارات الدينية بشكل عام . الاشتراكية من حيث الجوهر هي الحل المطروح للمشاكل الاجتماعية التي تفسد المجتمع ، وفي مقدمتها الفقر الناجم عن فوارق الطبقات الحاد ، وما يترتب على الفقر من امراض خطيرة كالامية والفساد والتخلف والصراعات الاجتماعية ...الخ . فالاشتراكية بهذا التحديد هي النظام الذي يزيل الفقر من اساسه بتحطيم نظام الفوارق الطبقية الكافرة ، وتوفير الحاجات الاساسية للانسان مثل الخبز والتعليم والطب والخدمات الاخرى التي تحرر الانسان من العوز المادي فتتهاوى بقية الامراض الاجتماعية .
الاشتراكية اذن نظام اجتماعي يحمل الدولة مسؤولية توفير احتياجات الانسان الاساسية لاجل تحريره من عوائق الابداع والعمل الاجتماعي المنتج وازالة الشرور التي ينتجها الحرمان والفوراق الطبقية . لذلك فانها نظام انساني واخلاقي في نفس الوقت يعيد للانسان انسانيته ويحفظ كرامته ويوفر له المناخ الملائم للتحرر من الفساد وكل الامراض التي تتولد تلقائيا من الفقر مباشرة او بصورة غير مباشرة . والسؤال الجوهري هنا هو هل يوجد دين سماوي يرفض الاشتراكية مع انها تريد اقامة العدالة الاجتماعية وازالة الظلم ؟ الجواب يعتمد على الصورة النمطية التي رسمتها الدوائر الغربية للاشتراكية مقتبسة النموذج الشيوعي على اساس انه النموذج الشائع للاشتراكية . فما هي هذه الصورة النمطية للاشتراكية التي تقبلتها احزاب دينية بلا تمحيص ؟ اول مظاهر الصورة النمطية هي صورة اشتراكية الحادية اقترنت بالمادية الجدلية وهي الفلسفة الكونية للشيوعية ، والتي اطلقت المقولة الشهيرة : ( ان الكون لم يخلقه اله او انسان وانما هو نتاج التطور والصدفة ) ! ثم اكملت صورة الاشتراكية الظالمة بنشر مقولة الشيوعية ايضا وهي ( الدين افيون الشعوب ) ! بهاذان الموقفان وضعت الاشتراكية في سياق مناقض للدين والايمان الديني دون نظرة موضوعية تمييزية بين الانواع المختلفة للاشتراكية ، كما سنرى . اما المظهر الاخر للصورة النمطية للاشتراكية فهي وصفها بانها نظام يلغي الملكية الفردية ويحرم الانسان من التملك . واخيرا وليس اخرا قدم المظهر الثالث للصورة النمطية للاشتراكية بوصفها انها اممية تتجاوز الحدود القومية وتتعامل مع البشر كلهم على قدم المساواة . هل هذه الصورة النمطية للاشتراكية صحيحة ؟ دعونا نتناول الاشتراكية البعث لنرى كم ان تلك الصورة ظالمة وغير صحيحة .
هناك ثلاثة اختلافات جوهرية بين اشتراكية البعث والاشتراكية الماركسية – اللينينية ، وهي الاختلاف الفلسفي – الديني والاختلاف حول الملكية ، والاختلاف حول القومية . فالبعث يرفض الربط القسري المصطنع وغير المبرر بين النظرة الفلسفية للماركسية – اللينينية ، وهي المادية الجدلية التي انكرت وجود الله وعدت الدين افيون الشعوب ، ويرى اي البعث ، ان الاشتراكية مفهوم اجتماعي يعالج الفقر والفوارق الطبقية واثارهما وليس له صلة بالفلسفة الجدلية ولا باي مفهوم فلسفي اخر يتناول الكون والطبيعة . لقد تناولت المادية التاريخية ، وهي الفلسفة الاجتماعية للماركسية – اللينينية ، الاشتراكية من زاوية اجتماعية تاريخية ، وهذا صحيح ، لكنها حينما اعتبرت ان الماركسية - اللينينية هي فلسفة شمولية تفسر المجتمع والطبيعة بنفس الوقت افسدت على نفسها البيئة الاجتماعية للناس الميالين بالطبع للايمان بالله . لذلك فان البعث يرفض المادية الجدلية ويعدها موقفا فلسفيا اقحم على نحو مصطنع على الاشتراكية والتي تقول بان اصل الشرور الاجتماعية هوالحرمان المادي الناجم عن فوارق الطبقات ، وهو موقف صحيح ، ويرى البعث ان الايمان بالله هو الجزء المقوم في الوعي الاجتماعي السليم والذي يدعم الاشتراكية من زاوية ان العدالة الاجتماعية هي مطلب ديني ، لان الله خلق البشر ولم يخلق الفوارق الطبقية بينهم وساوى بينهم في القيمة الانسانية .
ومن مظاهر احتواء الاسلام للاشتراكية التجربة الغنية لعهد الخلفاء الراشدين حيث كانت الثروة تقسم بالتساوي بين المسلمين ولا فرق بين خليفة ومواطن عادي وقصة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع ابنه عبدالله حول قطعة القماش مشهورة ، كما ان الامام علي كرم الله وجهه قال ( لو كان الفقر انسانا لقتلته ) في اشارة الى ان مصدر الشرور الاساسي في المجتمع هو الفقر . في هذا الاطار راينا البعث يرفض الفكر الالحادي الشيوعي منذ نشوءه ويؤكد على ان الاشتراكية البعثية ايمانية وليست الحادية وانها تتوافق مع تعاليم الاسلام وتخدم هذه التعاليم .
واذا تناولنا الميزة الاخرى لاشتراكية البعث وهي انها لا تحرم الملكية على وجه الاطلاق وانما تحرم الملكية الاستغلالية وتسمح بالمكية الفردية على ان تخضع لشرط حاسم وهو انها يجب ان تقع ضمن سيادة الملكية العامة لوسائل الانتاج الكبرى . وبهذا المعنى فان الاشتراكية البعثية توفق ما بين الملكية العامة المسؤولة عن تامين عدالة المجتمع وانتاجه وخدماته ، وبين الملكية الفردية التي تلبي الحاجات الطبيعية للانسان في التملك بصفته احد اهم حوافز العمل والانتاج والابداع لدى الانسان . ان منع الملكية الفردية يفضي الى خمول الانسان وتدهور ملكته الابداعية لان الحافز الشخصي للعمل يعطل او يضعف وهذا هو احد اهم اسباب فشل الشيوعية وتدهورها .
واخيرا وليس اخرا فان البعث رفض الاممية الشيوعية لانها كاي اممية اخرى تقفز من فوق القومية مع ان الاممية ، سواء كانت دينية او شيوعية ، يجب ان تمر اولا بالرابطة القومية ، وتعترف بها بصفتها وضعا انسانيا طبيعيا لا يمكن القفز من فوقه . اذ كيف يمكن ان تقام الاممية اذا كانت الرابطة القومية غير مبنية او مقامة ؟ يجب اولا اكمال الوحدة القومية قبل التفكير بوحدة اوسع ، تماما كالبناء العالي فانك لا يمكنك من الوصول الى اعلاه الا اذا بنيت ادناه .
أذن الاشتراكية البعثية هي نظام اجتماعي يوفر بقواعده البيئة المناسبة لتفرغ الانسان للنشاطات الروحية بلا قلق او ضغط الحاجة المادية او تهديدها للانسان يوميا بعد توفير احتياجات الانسان ، وهو نظام يفتح المجال امام النشاط الفردي اقتصاديا لانه عامل ابداع وحافز انتاج ، ويكمل دور الدولة في تامين السلع والخدمات لافراد المجتمع الانساني ، وبقدرة الاشتراكية على تحرير الانسان من الخوف من غده يتفرغ للعمل المنتج وللقضايا الروحية والثقافية ويلج عالم تفجير طاقاته الانسانية الكامنة ممهدا لرقي الانسان خلقيا وماديا . والسؤال هنا هو : ما الذي يجعل الدين ضد الاشتراكية البعثية ؟ بالتاكيد ان الاسلام هو المصدر الاساس لاشتراكية البعث وكل من فهم الاسلام على نحو صحيح توصل الى استنتاج صحيح اخر وهو ان الاسلام بذاته يتضمن الاشتراكية الايمانية .
خلاصات واسنتتاجات ختامية
اولا : ماهي اهم ميزات البعث عن غيره من الاحزاب والحركات الدينية والعلمانية والقومية والماركسية ؟ هناك ظاهرة تكوينية ولادية مشوهة او ناقصة في التنظيمات العربية ، فهي اما احزاب اسلاموية ترفض القومية والاشتراكية مع انهما ظاهرتان لا يمكن اقصائهما من جسد الامة السليم ، او هي احزاب قومية تتنصل عمليا من الاسلام مع انه روح العروبة ، واغلبها يهمل الاشتراكية او يتبنى اشتراكية هي في الواقع تخريج بورجوازي او اقطاعي للاستغلال مع ان ازالة الفقر والفوارق الطبقية شرط مسبق لنهضة الامة وتقدمها . وهناك احزاب اشتراكية كالاحزاب الشيوعية ترفض الاسلام والقومية لذلك تبقى الامة تعاني من مشاكل التجزئة في عصر الكتل الكبيرة وزمن الفقر الروحي الذي لن يزول الا بالاسلام . البعث نجح في دمج كل هذه الضرورات الحياتية فبرز حزبا قوميا اشتراكيا روحه الاسلام . واذا نظرنا الى الساحة العربية لن نجد حزبا اخرا يجمع هذه السمات الثلاثة . يضاف الى ذلك ان البعث هو التنظيم العربي الوحيد الذي انتشر في الوطن العربي ويعمل تحت قيادة واحدة وتنظيم واحد ليعبر عن وحدة الامة العربية على المستوى الشعبي تمهيدا لقيام الدولة العربية الواحدة من المحيط الى الخليج العربي . لذلك لا يمكن للمرء الا ان يرى في ظل الاوضاع الحالية ان البعثي هو وحده من يحمل في يمينه القران وفي يساره الاشتراكية وفي عقله القومية وفي قلبه الحرية . وتلك اسلحة جبارة وبالغة الحسم يقاتل البعثي بها وهي متعددة ولا يملكها غيره .
ثانيا : بدمج هذه العناصر الجوهرية الاربعة وتجسيدها فكرا وتنظيما في البعث اكتسب هذا الحزب صفته التاريخية ، وهي صفة لا تسبغ الا على الاحزاب والحركات التي تستمر عقودا وقرونا من الزمن لانها تحمل رسالة عظمى يحتاج تطبيق مضامينها الى مراحل زمنية طويلة . ان الحزب التاريخي هو الذي لا ينشأ تلبية لرغبة فردية او طارئة بل هو ذلك التنظيم الذي يحدد امراض الامة ويقرر العلاجات الجذرية لها ثم يبدأ عملا ستراتيجيا طويل المدى لتنفيذ اهدافه ، بمعزل عن قياداته التاريخية او التي تليها بحكم تقدم الزمن . فالحزب التاريخي حركة تخضع لاليات موضوعية تستقل حتى عن مؤسسيها ومن يتولى القيادة فيها . ولعل افضل تجسيد لتاريخية البعث هو انه يعمل على تحقيق اهداف عظمى وجوهرية لا تتحقق بسهولة بل تحتاج لنضال قاس وتضحيات لا حدود لها وزمن طويل وخدمة اجيال متعددة ، فتتكون سايكولوجيا تاريخية لدى مناضلي الحزب تنقلهم من كونهم افرادا عاديين الى نوع خاص من البشر سمته الابرز انه صاحب رسالة يهب نفسه للامة وقضاياها ويتقبل الموت من اجلها كضرورة من ضرورات الحياة النضالية . وهذه الصفة غابت عن حياة العرب منذ انتهاء عصر الصحابة ووجدها العرب في البعثيين الذين جسدوا مفهوم البطولة الاسطورية ورفض الخنوع والاستسلام للعدو الخارجي وللديكتاتوريات داخل الوطن العربي . ان البعث في العراق قد فتح ابواب تجذره واكتسابه الصفة التاريخية اعتبارا من محاكمات المهداوي ( 1959 ) التي شهدت بطولة نادرة عبر عنها من كانوا في قفص الاتهام يواجهون احكام الاعدام دون اي خوف او تراجع ، وكان ابطال البعث يردون على المهداوي شتائمه بكلام قاس ويتحدونه ويتحدون الديكتاتور قاسم رحمه الله . وبعد حوالي نصف القرن من تلك المحاكمات شهد العالم مجددا دليلا اخرا على تاريخية البعث حينما اسر قائده الرفيق صدام حسين امام المجاهدين فك الله اسره ، وقسم كبير من قيادته نتيجة احتلال العراق ، ووقفوا يتحدون الاستعمار واعوانه ويحولون المحاكمة الى منبر لتعبئة الملايين من الناس ولتجنيد الاف البعثيين الجدد وكشف الاحتلال ، وهكذا بدل الاستمرار في شيطنة البعث عبر تلفيق الاكاذيب برز البعث حزبا لافضل المناضلين واشدهم ايمانا بالله وبالمبادئ السامية للبعث .
ثالثا : لقد سبقت البعث حركات ورافقته اخرى على طريق النضال ، واعقبت نشوءه احزاب كثيرة ، وبعض هذه التنظيمات نشات تلبية لحاجة حقيقية لكنها نكصت وتراجعت وتلاشت او اصبحت هامشية لانها لم تكن تمثل الامة بكامل احتياجاتها القومية والاسلامية والاشتراكية بل اختارت التعبير عن جانب من مشاكلها ، فكتب على تلك التنظيمات الزوال وبقي البعث متألقا يضيء سماء الامة العربية بافكاره ومبادئه السامية . وهذه الحقيقة تفرض على كل منصف وموضوعي ان يبحث فيها ويتامل في دلالاتها ، من خلال السؤال التالي : لم بقي البعث رغم اعدام واغتيال الالاف من مناضليه وشن حملات شيطنة له هي الاكبر والاذكى في كل التاريخ الانساني ، فيما زالت احزاب اخرى لم تتعرض لجزء بسيط مما تعرض له البعث ؟
رابعا : لقد طور البعث مفهوما جديدا عصريا وعمليا للاسلام ، من حيث التطبيق والممارسة ، وهو انه طرح مفهوم الاسلام العام المجرد من الطائفية والطوائف بصفته المصدر الاساسي للتشريع في الدولة البعثية وطبق ذلك فعلا ، فنجح في تجاوز مخاطر الشرذمة داخل الاسلام الناجمة عن الطائفية التكفيرية بكافة اشكالها . فالاسلام البعثي هو الاسلام العام المجرد من الطوائف والمعتمد على القران الكريم بصفته المرجع الحاسم في تقرير صواب او خطأ كل ما ورد في التراث الاسلامي من اتجاهات في المجتمع والحكم على الفتاوى والنظريات الاجتهادية الدينية . ان الاسلام العام هو وحده الذي يسمح بانطلاقة عربية وحدوية وتقدمية واسلامية ناجحة وبلا عقد وتحديات التشرذم الطائفي الذي لا يحقق الا اهداف اعداء العرب والمسلمين .
خامسا : الاسلام كدين لا يكفي لوحده للبقاء والانتشار وتطبيق مبادئه لانه بحاجة لبيئة صحية تسمح بفعله الخلاق ، وهذه البيئة هي الجسد المادي له الذي يسنده في حركته الاجتماعية والنضالية ، ويستخدمه كقوة روحية لا تقهر عندما تجتمع بجسد مادي . فما هو الجسد المادي للاسلام ؟ انه القومية العربية التي كانت قاعدة الفتوحات الاسلامية عند بدء الرسالة الاسلامية ، والتي كان ضعفها السبب الرئيسي في تدهور الخلافة الاسلامية . ان قوة الدولة لا تكون مستمرة ومتطورة باستمرار الا اذا اعتمدت على عنصرين عنصر الروح ، وهو الاسلام ، وعنصر المادة والجسد لتلك الروح وهو القومية العربية . وبتكامل هذين العنصرين تحدث النهضة القومية والاسلامية . اما اذا اعتمدنا على نظريات خيالية تقول بان ابناء الامة الاسلامية دون تمييز يمكنهم بناء الدولة الموحدة لكافة العرب والمسلمين فاننا لن نصل الى الاهداف المرسومة بل سنصطدم بجدار العصبيات القومية العنصرية الفاعلة داخل شعوب اسلامية مصالحها القومية اقوى وارسخ من اسلامها . وتجربة العرب مع الفرس اثناء حياة الدولة العباسية مثال على هذه الحقيقة ، كما ان دور ايران الان القائم على التعاون مع امريكا لتسهيل غزو العراق وافغانستان وتدميرهما وتنفيذ مخطط اسرائيل لتقسيم الوطن العربي طائفيا وعرقيا ، كما اعترف خاتمي وغيره رسميا ، هو تأكيد على اسبقية الانتماء القومي على الانتماء الديني لدى الفرس . من هنا فان نشر مبادئ الاسلام هي بالاصل مهمة العرب ورسالة العرب ، وبترسيخ دور العرب هذا في قيادة النهضة العربية والاسلامية يمكن دمج دور الشعوب الاسلامية الاخرى في دائرة محكمة التحديد وبعد خلق توازن ردع يمنع طغيان النزعات والمصالح القومية داخل الحركة الاسلامية العالمية كما يحلم البعض .
سادسا : لماذا فشلت كل محاولات اجتثاث البعث منذ الهجمة الشيوعية والقاسمية والبارزانية الدموية في عامي 1958 و1959 وحتى الغزو الامريكي ، الذي تبنى لاول مرة في تاريخ العالم شعارا جسده في قانون اسمه ( قانون اجتثاث البعث ) ؟ لقد فشلت محاولات اجتثاث البعث ، رغم اعدام الالاف من مناضليه وتعذيب الاف اخرى منهم حتى الموت ، لسبب بسيط وهو ان البعث حركة تاريخية لها اهداف حبيبة على قلوب الجماهير وتجد فيها انقاذا لها من واقع التخلف والظلم والفساد والضعف ، ولذلك وما دامت هذه الاهداف ( الوحدة العربية والحرية والاشتراكية ) غير متحققة فان البعث سيبقى خالدا تتبدل قياداته وتتغير بيئته لكنه يبقى جبلا راسخ الصمود يتحدى الاعاصير ويدفع بالامة العربية نحو فجر التحرر من الاستعمار والجوع والتخلف والفساد الاجتماعي والروحي .
سابعا : واخيرا وليس اخرا من الضروري الانتباه الى حقيقة بارزة ومهمة جدا وهي ان البعث ينفرد من دون كل القوى السياسية ودون استثناء ، اسلاموية وعلمانية ، بكونه حزبا يجمع بين اهم اشتراطات الاسلام بشكل خاص والديانات السماوية الاخرى بشكل عام ، وهو انه حزب انقلابي يشترط على البعثي ان ينقلب على ذاته اولا كي يستطيع قلب المجتمع الفاسد . بمعنى انه حزب يعيد تشكيل قيم واخلاق ومنطلقات مناضليه الاجتماعية ، بتحريرهم من سيئات وموبقات المجتمع الفاسد ، ليتمكنوا من التحول الى قدوة محترمة ، وهذا هو منطلق الاحزاب الدينية ، ولكن البعث لا يكتفي بالوعظ التربوي والاخلاقي بل انه يخوض تجربة تغيير المجتمع ماديا وجذريا بالقوة او بغيرها لاجل القضاء على ينابيع الفساد الاساسية ، وهي الفقر الذي ينجب اولاده الشرعيين : الامية والتخلف والانحطاط الاخلاقي بكافة اشكاله ، وتلك هي مهمة الاحزاب الاشتراكية والدنيوية . من هنا فان البعث يحتوي ويجمع في روحه ، وعلى نحو عبقري وخلاق، بين متطلبات الدنيا والدين ، ويدمج بين قوانين الحياة الواقعية ، وفي مقدمتها ان الانسان الحر لا يمكن ان ينشأ الا في مجتمع حر ومتحرر من الجوع والامية والتمييز ، وبين قوانين الاسلام وفي مقدمتها ان المسلم كي يكون مسلما عليه ان ينقلب على ذاته اولا وقبل ان يتولى مسؤولية تغيير المجتمع .
أيها البعثيون : هل عرفتم الان سر خلودكم وخلود رسالة البعث وقدرته على التغلب على كل التحديات والعودة اقوى واصح وارسخ مما كان بعد كل جولة اضطهاد يتعرض لها ؟
1 Comments:
This comment has been removed by the author.
Post a Comment
<< Home