الخليج العربي... هل يفتقد عراقاً قوياً؟ بقلم الاستاذ محمد عارف
الخليج العربي... هل يفتقد عراقاً قوياً؟
باستثناء العراق نفسه، لا مكان في العالم يفتقد الدولة العراقية القوية كمنطقة الخليج العربي. هذا هو الانطباع الذي عُدتُ به من ندوة مغلقة نظمتها صحيفة "الاتحاد" لقراءة "تأثير المشروع النووي الإيراني على المنطقة". وبمقدار تعلق الموضوع بالعراق وإيران، كشفت الندوة التي شارك فيها أكثر من خمسين مفكراً ومسؤولاً عربياً، أن الأشقاء القادمين من خارج المنطقة في وادٍ والخليجيين في وادٍ آخر. وقد تمرُّ سنوات قبل أن يتبين العرب، والخليجيون خصوصاً، ما حدث للعراق وللمنطقة ويتدبروا أمرهم. فامتلاك إيران للقوة النووية أمرٌ واقعٌ، حسب تقدير مسؤولين عرب، ولن تغير هذه الواقعة توازنات المنطقة الاستراتيجية فحسب، بل تهدّد شريان الحياة للسكان. فالخليج بالنسبة للخليجيين أكثر أهمية بما لا يُقاس من قناة السويس للمصريين، إنه بوابة مرور أغزر الموارد النفطية العالمية، ونافذة أوسع تجارة عربية دولية، وحوض أكبر صناعة لتحلية المياه في العالم لتأمين الحاجات المائية لبلدان الخليج العربية.
وقد تبلور إجماع في الندوة على أن إيران خرجت الرابح الأكبر من غزو الولايات المتحدة للعراق. عبّرت عن هذا الاعتقاد شكاوى مفكرين ومسؤولين من بلدان مختلفة الحجم والتوجهات، كقطر والسعودية والبحرين، حول "المخاوف التي نشعر بها ولا يشعر بها العرب"، و"عدم الفهم العربي لمدى خطورة إيران على المنطقة"، و"بعض الإخوة غير مدركين للخطر الإيراني". فيما عدا ذلك اختلفت الأفكار والمواقف، حتى بين باحثين ومسؤولين من بلد عربي واحد، كالإمارات العربية المتحدة، حيث يراهن باحث استراتيجي على الحل العسكري الأميركي لحسم موضوع القوة النووية الإيرانية، فيما يؤكد باحث إماراتي آخر على أن "المواجهة العسكرية ليست في صالحنا"، ونحتاج إلى "حلول سلمية خلاّقة" للتعامل مع "قومية فارسية قوية متعالية تستند إلى برنامج نووي".
وفي الموقف الجيوستراتيجي من إيران، يمتد شتات فكري من أقصى المشرق العربي حتى مغربه. شهادات مفكرين خليجيين وشرق أوسطيين عن التعالي الإيراني، وعن لهجة الأمر، التي يتخاطب بها سفراء إيرانيون مع وزراء الخارجية في دول عربية تستضيفهم، وتهديدات مذهبية من عناصر القومية الفارسية في المنطقة. مقابل ذلك ينبه مفكرون من خارج منطقة الخليج إلى تعاطف الرأي العام العربي مع إيران، ويتحدثون عن أن "الشارع العربي مع إيران"، وينادون بالاستفادة من الفسيسفاء المذهبية والعِرقية لسكان منطقة الخليج، ويقترحون مدّ جسور إيديولوجية مع طهران، وبناء مشاريع للتعاون الإقليمي، بما في ذلك "إقامة تكامل سكاني" في الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة من قبل إيران. وما بين هذا وذاك، أطروحات استراتيجية مبهمة عن "محورية الدور الإيراني في العراق"، ودعوات إلى "الاعتراف بالدور الإقليمي الذي تلعبه إيران في المنطقة، خاصة في العراق... مقابل التزام إيران بوقف البرنامج النووي، وعدم التدخل في الشؤون العراقية".
وتكتشف بلدان الخليج العربية من جديد التوازنات الجيوسياسية التي تعيد اختراع دولة العراق القوية عبر القرون. هذه الحقيقة خبرتها إيران عبر علاقاتها المعقدة الصعبة مع العراق منذ فجر التاريخ، وهي كأي دولة "طبيعية" تخشى قيام عراق مفكك خارج عن السيطرة يحتل أطول حدودها الخارجية. كيف يغيب هذا التاريخ عن مستشارين لرؤساء دول عربية تحدثوا عن نهاية العراق، وذهبوا إلى حد التسليم بالادعاءات الاستعمارية حول عراق "أقامته بريطانيا من تجميع ثلاث ولايات"؟ ولماذا يمكن الإقرار بأن مصر هبة نهر النيل، ويصعب إدراك أن العراق هبة نهري دجلة والفرات؟ وما سبب هذا الاستسلام لاحتلال العراق، والذي يشبه قراءة الفاتحة على روح الميت؟ هل يعقل أن تنتهي دولة تتعامل نُخبُها الوطنية المثقفة، العسكرية والمدنية، منذ قرن مع أعقد وأخطر التوازنات الاستراتيجية في المنطقة والعالم، وتخوض منذ أكثر من ثلاث سنوات أشرس معركة تحرير عرفتها المنطقة؟ أليس هذا هو شرط قيام العراق على الفالق الزلزالي لصراع الأقوام والأديان والمذاهب الممتد من سهوب آسيا الوسطى إلى سواحل شبه الجزيرة العربية؟
بعض الجواب عن هذه الأسئلة تضمنتها مداخلة مفكر استراتيجي سعودي أطّل خارج نوافذ العقل العربية الموصدة، وأعاد إيقاف موضوع العراق والمنطقة على قدميه. وهذه مسألة فكرية استراتيجية مطمورة تحت أكثف ركام من اللغو الفارغ في تاريخ السياسة العالمية. فالعراق والسعودية وإيران، حسب الأكاديمي، الذي يشغل منصب أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة سعودية رئيسية، هي أركان المعادلة الأمنية التي تفرض على كل من هذه الدول الحفاظ على نظام التوازنات الاستراتيجية للمنطقة. بعد الثورة الإيرانية عام 1979 انهارت المظلة الأمنية بين إيران والعراق، فيما كانت الولايات المتحدة تترصد المشهد من بعيد. ووقعت الحرب بين الدولتين بسبب اختلال المعادلة الاستراتيجية للمنطقة. تنازل دول الخليج عن دورها الاستراتيجي لصالح الولايات المتحدة أدى إلى سلسلة الحروب التي انتهت بخروج العراق تماماً من معادلة التوازنات الإقليمية. الطرف الوحيد الباقي هو إيران التي تندفع الآن بقوة نحو امتلاك السلاح الذري المعادل لدورها الاستراتيجي. الضعف الخليجي، هو في رأي الأكاديمي السعودي، امتداد للضعف العربي، ومحصلة "التهميش المخيف لمصر، التي انتهت إلى القيام بدور وسيط بين طرفين لا تملك أي نفوذ عليهما، هما حماس وإسرائيل".
تحميل صدام حسين ونظام "البعث" العراقي المسؤولية عن ذلك، ترددّ كذكرى منسية على لسان واحد، أو اثنين من المشاركين في الندوة. وهذا أهون في كل حالٍ من إلقاء اللوم على طبيعة المجتمع العراقي، ونفسية العراقيين. وليغفر الله لمفكر خليجي -غاب لحسن الحظ عن الندوة- كتب مقالة في صحيفة عربية معروفة بعنوان "المذابح طبيعة ثانية للعراقيين"! وقد ذكر المفكر الذي استُخدمت أراضي بلده مرتين في غزو العراق، أن التصفية الجسدية للمعارضين في العراق عمل يكاد يكون "متمماً للشخصية العراقية"!
على امتداد المسافة ما بين الندوة، والتي عُقدت في فندق "قصر الإمارات" الفخم، وبين مطار أبوظبي، لم تتوقف عن الرنين في ذهني حوارية الأديب اليوناني نيكوس كازانتزاكي في روايته "الإخوة الأعداء": "احفرْ، وقلْ ما ترى؟". "أرى رجالاً وطيوراً، مياهاً وصخوراً". "احفرْ أعمقَ. ما ترى؟". "أفكاراً وأحلاماً، وخيالات وومضات خاطفة". "احفرْ أعمقَ. ما ترى؟". "لا أرى شيئاً سوى ليل بهيم كثيف كالموت. لعله الموت". "احفرْ أعمقَ". "آه، لا أستطيع أن أنفذ عبر حاجز الظلام. أسمع أصواتاً وعويلاً. أسمع صفق أجنحة على الشاطئ الآخر". "لا تبكِ، لا تبكِ. إنه ليس الشاطئ الآخر. الأصوات والعويل، والأجنحة هي قلبك أنت".
تمنيت لو يسمح قلبي بالتحدث عن أصدقاء خليجيين لقيتهم، كسلفهم العربي القديم الذي قطع الربع الخالي حاملاً رمحاً مغروزاً بصدره. قد يصف البدوي كيف اخترق الرمح صدره، متحدثاً عن عمق الجرح، لكنه آخر من يستطيع، أو ربما آخر من يريد أن يقول ما يشعر به.
المصدر: صحيفة الاتحاد الاماراتية
0 Comments:
Post a Comment
<< Home