الخلط بين الفدرالية والكونفدرالية ليس هفوة عابرة
الخلط بين الفدرالية والكونفدرالية ليس هفوة عابرة
د. رغيد الصلح
تجارب بناء الأوطان والدول والعلاقات الدولية، توفر ذخراً كافياً للمعنيين بالأمر لكي يتبينوا الفرق بين الفدرالية والكونفدرالية في العراق والسودان ولبنان يكثر الحديث عن الفدرالية كإطار مناسب لمجتمعات عربية تتميز بنسبة عالية من التنوع الاثني والديني وكضمان لضمان عدم انزلاق الدولة نحو ممارسة الاستبداد.
بيد أن المناقشات والمداولات التي تتمحور حول الفدرالية تنطوي على التباسات كثيرة واستخدام لبعض المفاهيم والمصطلحات في غير محلها.
من الأخطاء الشائعة في هذا المضمار، أن يتحدث مشتركون في هذه المداولات عن مشروع فدرالي بينما هو في حقيقته مشروع دولة لا مركزية. الخطأ الشائع الأكبر هو أن يجنح مشتركون في هذه المداولات إلى طرح مشاريع وأفكار تهدف إلى إقامة كيانات كونفدرالية بينما هم يعتقدون أو يريدون الإيحاء بأنهم يقترحون مشاريع فدرالية.
إن الخلط بين الدولة اللامركزية والدولة الفدرالية قد يكون مبرراً، إذ إنه في الحالتين يدور النقاش وتنصب المداولات على توصيف دولة واحدة، وعلى تحديد العلاقة بينها وبين الوحدات الأصغر التي يتكون منها الكيان الواحد. أما الخلط بين الفدرالية من جهة والكونفدرالية من جهة أخرى، فليس هناك من مبرر له من الناحية المعرفية، إذ أن تجارب بناء الأوطان والدول والعلاقات الدولية، توفر ذخراً كافياً للمعنيين بالأمر لكي يتبينوا الفرق بين الفدرالية والكونفدرالية. والخلط بين الاثنين أبعد أثراً بكثير من الخلط بين الدولة اللامركزية والدولة الفدرالية، ذلك أن الكونفدرالية ليست دولة واحدة بل هي كيان تعاضدي لدول مستقلة يقوم بينها تعاون واسع في مجالات عديدة، كما هو الأمر في اتحاد الدول المستقلة الذي يضم روسيا وبعض دول الاتحاد السوفييتي السابق. استطراداً، فإنه من الضروري أن يحرص المشتركون في المداولات حول مصائر المجتمعات العربية الثلاثة أو غيرها ان يتجنبوه وأن يدققوا في المفاهيم والمصطلحات التي يستخدمونها عند بحثه.
ثمة من يعتقد أن الالتباس بين الكونفدرالية والفدرالية هو خلط مقصود يتعمده فرقاء يريدون تمرير مشاريع انفصال أقاليم معينة في المنطقة العربية عن دول قائمة، وذلك بأقل كلفة ممكنة. وفي هذه الحالة فإن إلباس مشاريع تفكيك دولة عربية أو أكثر، رداء فدرالياً سوف يساعد على تهدئة المخاوف وردود الفعل السلبية التي يمكن أن تحدثها مثل هذه المشاريع. ربما كان هذا صحيحاً، ولكن الالتباس بين المفهومين وافد أحياناً من تجارب الشعوب والدول الأخرى حيث بدت الحدود ضائعة أحياناً بين الكونفدراليات والفدراليات. فكما أن الاتحاد السوفييتي "الفدرالي" تحول إلى اتحاد تعاضدي، فإنه قامت بعض الكيانات الكونفدرالية التي تحولت إلى كيانات فدرالية كما حصل الأمر في الولايات المتحدة وسويسرا على امتداد العقود المنصرمة. إلا انه من الضروري التأكيد أن مثل هذه التحولات لم تحصل سلماً ولا كان الطريق إليها سهلاً، بل رافقتها حروب ومعضلات كثيرة. أي انه يخطئ من يعتقد أن تقديم المشاريع الكونفدرالية والانفصالية بحلة فدرالية أو لا مركزية يكفي لتخدير ردود الفعل عليها ولتمريرها في غفلة من الآخرين.
لذلك فإنه على من يحرص على أمن المنطقتين العربية و"الشرق أوسطية" واستقرارهما ومصلحة شعوب هاتين المنطقتين أن يكون دقيقاً في تحديد مواقفه وفي تحمل تبعاتها. الدقة هنا تقضي بتحديد مواصفات الدولة الفدرالية المنشودة، وتمييزها عن الكيان الكونفدرالي. ومن الفوارق المهمة التي تميز الدولة الفدرالية عن الكيان الكونفدرالي، هو أن الدولة الفدرالية لها سلطة مباشرة على الأفراد والمواطنين وهي تمارس هذه السلطة، في الأمور التي يحددها الدستور، حتى من دون الرجوع إلى السلطات المحلية، فضلاً عن هذا وذاك فإن الصيغة الفدرالية لا تمنح الأقاليم والمناطق التي تتكون منها الدولة الحق في الانفصال عنها، كما أن الدولة الفدرالية لا تستطيع، بالمقابل، طرد أي منطقة من المناطق من الاتحاد الفدرالي. خلافاً لهذه المبادئ فإن السلطة الكونفدرالية إذا صح التعبير ليس لها أن تمارس علاقة أو سلطة مباشرة على الأفراد في الدول الأعضاء في الكيان الكونفدرالي، وليس لها أن تمنع أي دولة عضو في هذا الكيان من الانسحاب منه. وتتميز السلطات الفدرالية عادة عن السلطات الكونفدرالية بأن الأولى لها القرار النهائي في قضايا العلاقات الخارجية والدفاع وقرارات الحرب والسلم والضرائب. أما في السلطات الكونفدرالية فإن البت في هذه القضايا يتم بصورة جماعية، وفي أكثر الحالات يكون لكل دولة من الدول الأعضاء حق النقض أو الامتناع عن تنفيذ القرار إذا وجدت أنه يضر بمصالحها ولا يتماشى مع إرادة شعوبها.
ما عدا هذه المبادئ العامة فإن هناك نوعين من التوصيف للدولة الفدرالية، هناك التوصيف الذي يعتمد في بعض الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة الذي يشدد على أن لكل من السلطات الفدرالية والسلطات المحلية صلاحياتها ومجالاتها وأدوارها بحيث لا يحق لأي من هذه السلطات أن تعرقل قيام الأخرى بمهامها أو أن تحد من حريتها في الاضطلاع بهذه المهام.
هناك توصيف آخر يعتمد في الدول النامية والتي يترسخ بنيانها الوطني مثل اتحاد جنوب أفريقيا والهند، وفي هذه الدول فإنه ليس هناك من فصل قاطع بين السلطات الفدرالية، من جهة، والسلطات المحلية من جهة أخرى. فالسلطة الفدرالية لها حق التدخل، وفي حدود رسمها الدستور، في شؤون السلطات المحلية إذا وجدت أن الأخيرة تنفذ سياسات متعارضة مع مصلحة البلاد العليا، وهكذا قامت حكومة الهند مراراً بحل حكومات محلية لأنها وجدت أنها تعرض وحدة الهند ومصالحها إلى الأخطار.
إن ما يقترحه بعض القادة في العراق والسودان، وفي الماضي في لبنان، ينطوي على تجاهل كبير لهذه التحديدات والمواصفات، فبعض الزعماء العراقيين الأكراد، على سبيل المثال، يطالب بتحويل العراق، في أحسن الحالات، إلى اتحاد للدول المستقلة على غرار الاتحاد القائم بين بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، بينما يشدد هؤلاء الزعماء على أنهم لا يسعون إلى الانفصال!!.. وخلال المناقشات التي أثارتها الاقتراحات التي قدمتها كتلة ا"لتحالف الكردستاني" إلى اللجنة التابعة "للجمعية الوطنية العراقية" المكلفة بصياغة "مشروع الدستور العراقي"، قال متحدثون باسم الكتلة (أن الفدرالية التي تطلبها الكتلة للعراق تشبه "النموذج السويسري"). ولكن ما أغفل توضيحه هنا هو أي نموذج؟ فهناك في الحقيقة نموذجان سويسريان: الأول نموذج كونفدرالي استمر حتى عام 1848، والآخر فدرالي مستمر حتى الآن. فهل تطالب كتلة التحالف الكردستاني بالنموذج الأول أو الثاني؟
للعودة الى موقع: سيبقى العراق الى الأبـــــد
0 Comments:
Post a Comment
<< Home