100 مليون شخص مهددون بالسقوط في الفقر
لندن: د. أحمد عيسى
يعيش نحو مليار شخص في أنحاء مختلفة من العالم على أقل من دولار يومياً (حد الفقر المدقع)، في حين يعيش حوالي 1.5 مليار آخرين على ما بين دولار ودولارين يومياً (حد الفقر).. وقد صرح رئيس البنك الدولي "روبرت زوليك" مؤخراً بأن "ارتفاع أسعار الغذاء قد يدفع 100 مليون شخص إضافي إلى دائرة الفقر المدقع، ويمحو جميع المكاسب التي تحققت لأفقر مليار شخص خلال السنوات الماضية".
احتجاجات عنيفة ضد ارتفاع أسعار الغذاء والمواد الأساسية شهدتها "مصر"، و"الكاميرون"، و"هاييتي"، و"بوركينافاسو"، والبقية في الطريق تنذر باضطرابات أمنية وسياسية؛ فقد اندلعت في "مكسيكو سيتي" احتجاجات جماهيرية على ارتفاع تكلفة الخبز، وشهد "غرب البنغال" اندلاع نزاعات حول ترشيد حصص المواد الغذائية.. ولم تكن "السنغال" و"موريتانيا" وأجزاء أخرى من أفريقيا بمنأى عن ذلك؛ حيث شهدت أعمال شغب نتيجة لارتفاع أسعار الحبوب. أما في اليمن، فقد خرج الأطفال في مسيرات حاشدة ضد جوع الأطفال.
الفقراء ينفقون في المتوسط ما بين 50 و75% من دخولهم على شراء المواد الغذائية، ولا يثير ارتفاع أسعار الأغذية الاضطرابات فقط وإنما يهز اقتصادات الكثير من الدول، ويذكي مشاعر رعب غير مسبوقة، وحين ينعدم الأمن الغذائي ينعدم معه الأمن الاجتماعي السياسي..
فما السر وراء الأزمة؟ وكيف يحدث هذا في العصر الجديد للعولمة؟ وهل هي أزمة غذاء أم أزمة أخلاق عالمية؟ وهل ستستفيق بلادنا فتطبق أخلاق الإسلام وتأكل مما تزرع؟!
زيادة عالمية: وقد أعلنت منظمة الأغذية والزراعة أن 36 بلداً من بلدان العالم تواجه أزمة بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والوضع سيستلزم تقديم مساعدات خارجية إليها، وقد تفاقم انعدام الأمن الغذائي في العديد من تلك البلدان نتيجة للصراعات والفيضانات أو الظروف المناخية البالغة الشدة (1). وارتفعت أسعار القمح بنسبة 200%، كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بصفة عامة بحوالي 75% منذ بداية هذا القرن.
ولكن تلك الزيادات مازالت شديدة الوطأة على ملايين المستهلكين من الفقراء، ومن المرجح أن تستمر الأسباب الجذرية لظاهرة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأمد المتوسط، بسبب ارتفاع أسعار منتجات الطاقة والأسمدة، وضعف الدولار الأمريكي، وفرض حظر على صادرات المواد الغذائية، وزيادة حجم الطلب على المحاصيل الغذائية في إنتاج الوقود الحيوي، وخاصة في أمريكا وأوروبا، وموجات الجفاف التي ضربت أستراليا وبلداناً أخرى، وانخفاض المخزون العالمي من الغذاء.
ووفقاً لما ورد في التقرير الحديث "ارتفاع أسعار الأغذية: خيارات السياسات واستجابة البنك الدولي" (2)، فقد وصلت الزيادة في أسعار القمح العالمية إلى 181% خلال 36 شهراً حتى فبراير 2008م، وارتفعت الأسعار العالمية للمواد الغذائية عموما بنسبة 83%.. وترتفع الأسعار بصورة مذهلة، ففي شهر واحد فقط، قفزت أسعار القمح الأمريكي من 375 دولاراً إلى 425 دولاراً أمريكياً للطن، وأسعار الأرز التايلندي من 365 دولاراً إلى 475 دولاراً للطن، وكلا البلدين من البلدان الرئيسة المصدرة للحبوب..
وهناك شبه إجماع على أن اضطراب النمط المناخي التقليدي يعود إلى إضرار البشر بالبيئة، وهو الضرر الذي تسببت في معظمه تاريخياً الدول الصناعية الغنية وفي مقدمتها: "الولايات المتحدة" و"ألمانيا" و"فرنسا" و"بريطانيا" و"اليابان"..
يقول المدير العام لصندوق النقد الدولي: "ومن المرجح، بالنظر إلى الارتفاع الكبير في الأسعار، أن يواجه العديد من البلدان الفقيرة "عجزاً هائلاً" في الموازين التجارية.. الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث اختلالات في اقتصادات تلك البلدان".
ويقول رئيس مجموعة البنك الدولي: "إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يساهم أيضاً في تفاقم مشكلة سوء التغذية، وإن أزمة أسعار المواد الغذائية الآخذة في الارتفاع يمكن أن تعني (سبع سنوات ضائعة) في جهود مكافحة الفقر على مستوى العالم".
أسباب الأزمة
ارتفاع أسعار النفط الخام يعدُّ من العوامل الرئيسة التي أثرت بقوة على الاقتصاد الزراعي عن طريق زيادة الأسعار في كافة مراحل إنتاج وتوزيع الغذاء.
الضغط على المعروض الغذائي في الأسواق العالمية أما أسبابه: فبعضها موسمي مثل الجفاف الذي ضرب محصول القمح في بلدان رئيسة منتجة مثل "أستراليا" و"كازاخستان"، وأدى إلى تراجع محاصيل "المغرب" في الموسم الماضي، أو الصقيع الذي أضر بالزراعة "السورية" و"الأردنية" مثلاً هذا الموسم.. وإضافة إلى ذلك، ينظر كثير من المزارعين والمهندسين الزراعيين وخبراء الأمراض بقلق للتفشي المقبل من الأمراض، الأمر الذي يهدد غلة المحاصيل في صوامع الغلال الرئيسة في العالم.
تجريف الأراضي الزراعية لصالح الشركات الصناعية العالمية الكبرى.. وحسب تقارير منظمات الأمم المتحدة، فإن نسبة الأراضي المحمية في العالم الآن لا تتعدى 12% فقط، كما أن نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية تتعرض للاستغلال الكثيف، ما يؤدي إلى تآكل التربة (التبوير أو التجريف) وهو تطور لا يقل خطورة عن التغيرات المناخية السلبية.
نمو السكان وزيادة الطلب في الصين والهند على اللحوم، حيث يُستخدم 760 مليون طن من الحبوب لإطعام الأنعام (تحتاج 8 كيلوجرامات من الحبوب لتحصل على كيلوجرام واحد من اللحم البقري).. ففي الصين ارتفع معدل استهلاك الفرد من اللحوم من 20 كيلوجراماً إلى 50 كيلوجراماً خلال ربع القرن الماضي الأخير.
مشكلة الماء: ويتعدى الأمر إلى استخدام الماء، فالحصول على كيلو جرام واحد من القمح يحتاج إلى حوالي 2000 لتر من الماء، وللحصول على كيلوجرام واحد من اللحم البقري نحتاج إلى 13000 لتر من الماء!
أخلاقيات السوق
سيزداد الفقراء (المستوردون) فقراً، والأغنياء (المصدرون) غنى.. خذ مثلاً القمح، وانظر الجدول تر موقع "مصر" و"إندونيسيا" و"الجزائر" و"المغرب" من المأساة، وتتعجب كيف تتحول مصر بنيلها العظيم إلى أكبر مستورد للقمح في العالم!
ورغم ما يبدو من خطر المجاعة؛ إلا أن كمية الغذاء التي تنتج وتحديداً المحاصيل الزراعية الغذائية لم تشهد نقصاً حاداً بقدر ما ارتفعت الأسعار.. ففي العام الماضي، كان الإنتاج العالمي من الحبوب 2.1 بليون طن (أعلى 5% من العام الذي سبقه) ولكن نصفها فقط يصل إلى الأفواه.. وضاعف من المشكلة أن تلك الأسعار المرتفعة لا تعود على المزارعين، وإنما تذهب للشركات الكبرى والتجار العالميين في الحبوب والمحاصيل الزراعية.
ورغم زيادة الطلب على الأغذية، من حبوب ولحوم، خاصة من اقتصادات سريعة النمو إلا أن العرض ليس بالسوء الذي تصوّره التصريحات الحالية، فإلى جانب الضغط على الموارد هناك أيضاً مضاربات وسوء توزيع وممارسات احتكارية وانتهازية تسهم في دفع الأمور إلى حد الأزمة.. وكذلك يسهم كبار أثرياء العالم في زيادة أسعار الغذاء عبر المضاربة على أسعاره وتحقيق مئات المليارات من الدولارات من الأرباح السهلة والسريعة على حساب المليارات من فقراء العالم..
وقد دخلت صناديق الاستثمار الخاصة سوق السلع بكثافة، هروباً من عدم اليقين الذي ساد الأسواق المالية، وانهيار العملة الأمريكية، حتى صناديق الثروات السيادية للدول Sovereign Wealth Fund (SWF) التي غالباً ما تستثمر في السندات والأصول العقارية بدأت في تنويع محافظها الاستثمارية عبر دخول أسواق السلع.. كل ذلك أدى إلى ارتفاع أسعار تلك السلع، ومنها الزراعية والغذائية، عبر المضاربات الهائلة على عقودها الآجلة.