مستقبل المقاومة العراقية
معن بشور
بيروت في 12/4/2006
في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، وفي ساحة الفردوس القريبة من فندق فلسطين، الذي كان مركز تجمع مراسلي وسائل الإعلام الذين تجمعوا بالمئات لتغطية أخبار الحرب الأمريكية – البريطانية على العراق، انطلقت القذائف الأولى لحرب العراقيين على الاحتلال، ولتعلن على مرأى من هذا الحشد الإعلامي أن الساحة التي اختارتها قوات الاحتلال لتعلن من خلالها إعلاميا سقوط عاصمة الرشيد عبر إسقاط مبرمج لتمثال الرئيس العراقي عبر عملية مخططه مسبقا، كما تبين لاحقا، قامت بها احدى شركات العلاقات العامة الأمريكية، هي ذاتها الساحة التي انطلقت منها المقاومة.
وعلى الرغم من أن المحتل وعملاءه حاولوا إغراق هذه العملية الرمزية، التي كان لها مثيلات في أنحاء متعددة من العراق لم يسمع بها العالم، بسيل من عمليات السطو والنهب والسرقة المنظمة التي عمت المدن العراقية ومتحف بغداد والمرافق العامة والمكتبات والجامعات والمختبرات والمؤسسات العربية، إلا أن من يعرف الشعب العراقي بوطنيته العالية، وبشجاعته المميزة وايمانه العميق، وبعنفوانه الذي يأبى له الخنوع والإذعان، كان متأكدا أن هذه الرصاصات تعلن ولادة عصر جديد في حياة العراق والأمة والعالم بأسره.
واذكر أن الكثير من التشكيك والسخرية والإشاعات المغرضة قد واجهتنا في " الحملة الأهلية لنصرة فلسطين والعراق" ونحن ندعو إلى "مهرجان الدعم للمقاومة العراقية" في قاعة الاحتفالات الكبرى في الأونيسكو في 18 نيسان 2003، أي بعد اقل من عشرة أيام على احتلال بغداد، والذي حضره الآلاف من المواطنين وتكلم فيه ممثلو القوى المشاركة في الحملة الأهلية وسط حصار إعلامي خانق تخلله تشويه متعمد لهذه التظاهرة القومية يحمل في طياته تبرما" متوترا" من هذا الإصرار على متابعة التضامن مع العراق المحتل، بعد تضامننا مع العراق المحاصر لأكثر من 13 عاما، ومع العراق المواجه لأشرس عدوان وغزو على مدى أسابيع ثلاثة.
لم يكن ذلك الحصار الإعلامي مجرد تعبير عن رغبة محمومة ومدفوعة الأجر في صرف الأنظار تماما عن كل ما يتعلق بالعراق فقط لكي يستتب الأمر للمحتل وأدواته الإمساك الكامل بمقاليد العراق ومقدراته، بل كان أيضا جزءا من خطة إعلامية كبرى أنفقت عليها المليارات، واستخدمت فيها، وما تزال، كل وسائل التعتيم والتضليل والتشويه تنفيذا لتكتيك إعلامي شهير أرسى قواعده غوبلز الشهير وزير إعلام هتلر على أساس " أن تكذب.. وتكذب .. وتكذب، فلا بد أن يصدق الناس بعض كلامك".
غير أن الكذب هذه المرة كان يعتمد على آليات التطور الهائل في وسائل الاتصال والإعلام ونقل المعلومات، وكان منخرطا فيه رئيس الدولة الأكبر جورج دبليو بوش ومعاونوه الذين لم يخرجوا من كذبة على شعبهم والعالم ألا ليدخلوا في كذبة أخرى، فكانت الأجواء الممهدة للعدوان ملوثة بمزاعم كاذبة، وكانت الأجواء المرافقة للعدوان مليئة بالمعلومات الكاذبة، تماما كما كانت الأجواء اللاحقة للعدوان محشوة بادعاءات ووعود كاذبة يستغرق سردها ساعات طويلة، لعلى أبرزها دون شك الادعاء بنشر الديمقراطية في العراق وسط سموم المفردات والمصطلحات والمحاصصات العرقية والطائفية والمذهبية، وفي زنازين أبي غريب وكوبر والمئات غيرها من المعتقلات الأمريكية والبريطانية وملاجىء وزارة الداخلية، تماما كما الوعود المتلاحقة بالقضاء على المقاومة خلال أسابيع، وبعد كل عملية أمنية كبرى، يعطى لها اسم، خاص مطّعم بكل أنواع الخناجر والرماح، والتي لم تترك مدينة عراقية في الشمال والغرب والوسط والجنوب العراقي، إلا وعرّضتها لدمار منهجي شامل، استخدمت فيها أسلحة محرمة دوليا"، كالفسفور الأبيض في الفلوجة، ومع لك لم تكن تلك العمليات تنتهي إلا ويخرج المجاهدون منها أكثر قوة، وأكثر عزيمة على ملاحقة العدو.
وكلكم يذكر تلك الحملة الواسعة من التضليل الإعلامي التي كان يقوم بها المحتل اثر أية عملية اعتقال أو اغتيال موحيا" انه قضى بها على رأس المقاومة، وان نهايتها باتت قريبة وحتمية، ليكتشف العالم كله أن المقاومة باتت أكثر قوة واندفاعا لانها مقاومة شعب باسره، قبل ان تكون مقاومة فرد او قائد او حزب او جماعة.
الم تسمعون بالضربات القاصمة للمقاومة بعد اعتقال نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان ثم بعد اغتيال الشهداء عدي وقصي ابناء الرئيس العراقي الاسير وحفيده الشهيد مصطفى في تموز/يوليو 2003، ثم اثر اعتقال الرئيس العراقي نفسه في 15 كانون الاول/ديسمبر 2003، وقد اعلن المحتل يومها انه اسير حرب فاذا به يحال مع رفاقه الى محكمة غير شرعية بكل المقاييس والقوانين، المحلية منها والدولية، وبكل الاتفاقات المعنية بادارة شؤون المناطق المحتلة او بمعاملة اسرى الحرب.
انني اذ خصصت هذا الجزء من حديثي اليوم للإعلام فلأنكم تدركون ان جزءا" رئيسيا" من الحروب والضغوط والمناورات التي تواجهنا اليوم بات إعلاميا"، وان العديد من الاعلاميين الاحرار او المخلصين لمهنتهم باتوا امام خيارين لا ثالث لهما، اما الانسياق في خدمة هذه الآلة الاعلامية العظمى التي تقودها دائرة ضخمة في البنتاغون شكلت عشية الحرب على العراق، واطلق عليها دائرة التضليل الاعلامي وخصصت لها المليارات، او ان تلتحق بقافلة شهداء الصحافة الذين بلغ عددهم في العراق اكثر من 40 شهيدا، بدءا بالشهيد طارق ايوب وصولا الى الشهيدة اطوار بهجت مرورا بوليد خالد ناهيك عن اغلاق فضائيات وتفجير مكاتب، وتهديد اعلاميين.
ولقد روى لي احد الاصدقاء العراقيين العارفين بمجريات الامور ان كثير من الصور التلفزيونية التي تبث حول الاضرار التي الحقتها عملية المقاومة باحياء في المدن العراقية، انما تكون بالاصل عملية ناجحة ضد قافلة عسكرية امريكية، فيحاصر المحتل المنطقة ويخلي الاليات والاصابات الامريكية، ثم يصور مسرح العملية لتبدو وكأنها استهدفت بالاصل الاحياء المدنية العراقية، وقد دفع هذا التكتيك الاعلامي ببعض تشكيلات المقاومة الى ان تصور عملياتها وتبث الصور، لتواجه عبر مواقع محدودة للانترنت حربا" اعلامية سخرت لها الطاقات والامكانات ووسائل الضغط المختلفة، ناهيك عن المليارات من الدولارات ساهمت بتوفيرها مع الاسف حكومات عربية، وبالحماسة ذاتها التي ساهمت بتوفير ظروف نجاح العدوان على العراق، متناسية في كل ذلك، ليس مواثيق الاخوة والمعاهدات الملزمة، بل ان في سقوط العراق وانهياره، لا قدّر الله، سقوط لدول وكيانات وانظمة عربية واسلامية عديدة في المنطقة.
ويدرك العراقيون جيدا" ان الكثير من العمليات التي تستهدف تجمعات مدنية عراقية، وبيوت عبادة على انواعها انما يقف وراءها الاحتلال وادواته واعوانه، بل والموساد الصهيوني الذي دخلت شبكاته العراق مع قوت الاحتلال، وذلك لتحقيق اغراض ثلاثة اولها تشويه صورة المقاومة بعد ان يأس المحتل من القضاء عليها، وثانيها الانتقام من الشعب العراقي الذي تثبت كل الاستطلاعات رفض اكثريته الساحقة للاحتلال، وثالثها التمهيد لحرب اهلية تكون مبررا" لبقاء الاحتلال من جهة ومدخلا" لتقسيم العراق والمنطقة بأسرها من جهة أخرى، وهو التقسيم الذي كشفت الكثير من الوثائق عن انه مشروع صهيوني قديم ألبسته تل أبيب وواشنطن لباس مشروع الشرق الاوسط الجديد او الكبير ".
ويتساءل هؤلاء العراقيون، ونحن معهم، بأنه اذا كانت المقاومة فعلا"، كما يصورون هي لقتل الشعب العراقي، فمن اين جاءت هذه الخسائر البشرية والعسكرية المتعاظمة في صفوف جيش الاحتلال، وقد بلغت بالاف القتلى، حتى في الشهادات الرسمية ( وصل الرقم بالامس الى 2562 عسكريا امريكيا وبريطانيا")، وبعشرات الاف الجرحى، حيث اعترف مدير المستشفى العسكري الامريكي في المانيا نفسه ان عدد الجرحى الذين استقبلتهم مستشفاه قد بلغ الى اسابيع مضت، اكثر من 16 الف جندي، أكثر من 54% - حسب مصادر البنتاغون نفسه - لم يعد صالحا" للعودة الى الخدمة العسكرية مرة اخرى.
وفي اكثر التقديرات الامريكية تفاؤلا ان اكثر من ثلث القوات الامريكية في العراق قد خرج من المعركة فعليا" اما كقتيل او كجريح او كمريض عقليا ونفسيا (بلغ عددهم اكثر من 600 عسكري) او كفار من الخدمة، حيث بلغ عدد الفارين الى كندا وحدها حوالي اربعة الاف عسكري، بالاضافة الى ثلاثة الاف فروا من الخدمة، ناهيك عن النسبة العالية من الضباط الشباب الذين يتركون الخدمة في القوات المسلحة فور انتهاء عقود عملهم.
ففي مقالة له في "النيويورك تايمز" قبل يومين اعلن توم شنكر ان اكثر من ثلث خريجي عام 2000 من اكاديمية وست بوينت العسكرية الذائعة الصيت، قد تركوا الخدمة الفعلية لحظة انتهاء مدة العقد الذي وقعوه بعد تخرجهم، وكشف ان حوافز عديدة تقدمها القيادة العسكرية لجذب الضباط الشباب الى تمديد عقود الخدمة في الجيش الامريكي.
ولمزيد من الاطلاع على الحالة النفسية للجنود الامريكيين في العراق، نشرت دراسة مشتركة لمؤسسة الزغبي الدولية ولكلية لوموين ان 72% من الجنود الامريكيين دعوا الى الانسحاب من العراق في مدد لا تزيد عن 12 شهرا"، بينهم 29% دعوا الى انسحاب فوري لهذه القوات.
وفي استفتاءات اجرتها بشكل مشترك جريدة "الواشنطن بوست" مع شبكة A.B.C. للانباء، ونشرتها امس في 11/4/2006، انعكس بوضوح مزاج الجنود الامريكيين في العراق على اهلهم داخل الولايات المتحدة، حيث بلغت شعبية الرئيس بوش الابن ادنى مستوياتها منذ توليه الرئاسة أي 38% فيما بدا ان اكثر من ثلثي الشعب الامريكي غير راض عن ادارته لشؤون بلاده.
وتبرز اهمية هذه الاستطلاعات انها تأتي عشية الانتخابات النصفية للكونغرس الامريكي حيث سيعاد انتخاب نصف اعضاء الكونغرس، وكل اعضاء مجلس النواب في الخريف القادم، مما قد يؤدي الى فقدان الرئيس بوش للغالبية الجمهورية في المجلسين، والتي تمتع بها حتى الآن في سنوات حكمه منذ عام 2000، ومما قد يزيد من احتمالات لجوء الاغلبية الديمقراطية الى المطالبة باجراءات عزل بحقه (Impeachment) في ضوء اكاذيبه حول حرب العراق، وقضية التنصت، وقضايا الفساد التي غرق فيها كبار مساعديه، ناهيك عن فضيحة تسريب اسم عميلة الاستخبارات الامريكية للانتقام من زوجها السفير الذي رفض ان يشارك في كذبة الادارة حول شراء العراق من النيجر موادا" تستخدم في اسلحة الدمار الشامل، وهي الفضيحة التي طالت حتى الان السيد ليبي كبير مساعدي نائب الرئيس ديك تشيني، والذي افاد امام لجنة في الكونغرس بان التسريبات المتهم بها قد جرت بأمر من البيت الابيض.
فهل نحن امام فضيحة "ليبي غايت" شبيهة بفضيحة "واترغيت" التي اطاحت بنيكسون عام 1974، بل هل نحن امام فضائح "عراق غيت" تودي بادارة كاملة نجحت في ازهاق ارواح الامريكيين، وزعزعة اقتصادهم، واعادة العجز الى ميزانيتهم بنسبة 500 مليار دولار ( وهو رقم قياسي)، ناهيك عن تصاعد الديون الخارجية الى ارقام مذهلة.
واذا لاحظنا ان نسبة العجز هذه في الميزانية الامريكية تكاد تقارب نفقات الحرب في العراق وافغانستان، التي وصلت الى اكثر من 400 مليار دولار، نستطيع ان ندرك حجم التأثير الذي تحدثه المقاومة العراقية، ومعها المقاومة الافغانية، اساسا" داخل المجتمع الامريكي.
ومن يتابع وسائل الاعلام الامريكية، خصوصا عشية الذكرى الثالثة لاعلان الحرب العدوانية على العراق وبعدها، ومن يواكب مسلسل الكتب الامريكية التي تصدر تباعا" عن هذه الحرب، ومن يقرأ التقارير الصادرة عن مراكز الدراسات الامريكية لا سيما معهد بروكينغز، وتقارير اللجنة الدولية للازمات، وشهادات الخبير الاستراتيجي توني كوردسمان امام الكونغرس الامريكي، يدرك حجم الزلزال الذي احدثته المقاومة العراقية، داخل الادارة الامريكية، وداخل المجتمع الامريكي على حد سواء، لكن ما ينبغي التوقف عنده هو شهادة ثلاثة من كبار الضباط الامريكيين حول هذه الحرب.
ففي المقابلة التلفزيونية التي جرت في 2 نيسان/ابريل الحالي مع الجنرال انتوني زيني الذي كان قائدا" للقيادة المركزية للقوات المسلحة الامريكية قال: "ان وزير الدفاع رامسفيلد، مع آخرين، ينبغي مساءلته ومحاسبته عن العديد من الاخطاء التي ارتكبت في العراق وانه عليه ان يتنحى".
وفي مقالة كتبها في النيويورك تايمز في 19 آذار/ ابريل الماضي الجنرال المتقاعد بول ايتون الذي قاد تدريب القوات العراقية على مدى عام بعد الغزو قال: لقد كان على الرئيس بوش ان يقبل استقالة رامسفيلد التي قال انه عرضها عليه اكثر من مرة.
اما الشهادة الثالثة، التي نشرتها مجلة "التايم" الامريكية هذا الاسبوع، فقد كانت لاحد اكبر جنرالات البنتاغون غريغوري نيوبولد، المسؤول عن العمليات العسكرية الكبرى في الجيش الامريكي، والذي احيل الى التقاعد في أواخر عام 2002( أي قبل اربعة اشهر من غزو العراق)، وربما بسبب اعتراضه على هذه الحرب.
يقول نيوبولد "انه نادم عن عدم مواجهته "بالقدر الكافي التوجهات نحو الحرب على العراق، داعيا" الى اقالة رامسفيد واخرين من الذين لا يريدون تغيير نظرتهم الى هذا الامر" ومشيرا" في الوقت ذاته "الى ان الكثير من الجنرالات تحت الخدمة الفعلية يطالبون المتقاعدين من زملائهم ان يفصحوا عما يفكرون به ولا يستطيعون التعبير عنه، ومستغربا" كيف يضحي هؤلاء العسكريون بارواحهم في الحروب ويخشون التضحية بمناصبهم".
وقال نيوبولد "ان ابناء جيله من العسكريين اعتقدوا انهم تعلّموا من حرب فيتنام الا يسكتوا بعد الان عن الحرب وهم يرون أولئك الجهلة يقودنهم الى حرب اخرى ومن ثم يسيئون ادارتها "، متهما الذين كانوا وراء الحرب على العراق انهم قد جعلوا من الحرب على ما يسميه الارهاب في المرتبة الثانية من الاهتمام مما سمح لتنظيم "القاعدة " حسب قوله ان يوسع نطاق عمله وعملياته.
فلو لم يكن تصدي المقاومة العراقية للمحتلين وادواتهم فعاّلا، ولو كانت العمليات العسكرية موجهة فقط نحو المدنيين، كما يحلو للاعلام الامريكي ومصدقوه القول كل يوم، فهل كان ممكنا" ان يكون المشهد العسكري والسياسي والاقتصادي الامريكي بهذه الدرجة من التأزم والتردي، وان نسمع مثل هذه الشهادات من كبار العسكريين الامريكيين في ظاهرة غير مسبوقة اضطرت احدهم الى القول: " اذا كان بعض المجندين او المتعاقدين يقسم يمين الولاء امام رؤسائهم، فان الضابط يؤدي القسم امام الدستور".
ايها الاخوات والاخوة
اذا كان هذا هو حال المشهد الامريكي بسبب تداعيات الحرب على العراق، وابرزها دون شك فعالية المقاومة العراقية، فما هو حال المشهد العراقي ذاته، حيث المحاولات مستمرة ومحمومة لتغطية فشل امريكا وعملائها سواء بالعملية السياسية التي تزداد ارتباكا"، او بالفتنة الداخلية التي يشتد سعيرها كلما اقتربت ساعة الحقيقة بالنسبة للمحتل واعوانه.
اما العملية السياسية التي ما زالت عاجزة عن تشكيل حكومة عراقية حتى الان، رغم مرور اكثر من ثلاثة اشهر على اجراء ما سمي بالانتخابات النيابية، ورغم الحضور المباشر والمشترك لوزيري خارجية الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الى بغداد منذ اكثر من اسبوع من اجل حلها، فانها ما عدا بعض الاستثناءات، هي في جوهرها عملية اعادة انتاج للوجوه والمجموعات السياسية ذاتها التي جاءت مع الاحتلال، بعد ان تحالفت مع دوله قبل الغزو.
وافضل ما يمكن ان نصف به اركان العملية السياسية وركائزها ممن جاء مع المحتل هو ما قاله السيد بول بريمر، اول حاكم امريكي للعراق بعد الاحتلال، في اعضاء مجلس الحكم الانتقالي الذين يتناسلون في كل المؤسسات التشريعية والحكومية التي قامت في ظل الاحتلال:" انهم حفنة من المنفيين الكسالى الذين لا يمثلون الا انفسهم، وهم لا يتمكنوا حتى من تنظيم مسيرة".
ولعل ما يفسر وتيرة الاستهلاك الامريكي المرتفعة لهذه الرموز، حيث تقدم بعض الاسماء الى الاضواء لتعود فتختفي، وهذا ما جعل مؤسسة عالمية مستقلة اسمها (المجموعة الدولية للازمات) (International Crisis Croup) ، ولها مجلس امناء من 35 شخصية واستراتيجية وديبلوماسية في العالم تقول : ان على واشنطن ان تدرك مدى تغير الارض تحت اقدامها منذ بداية الاحتلال وان تطور استراتيجية كاملة وجدولا" زمنيا" يتكيف مع هذا الواقع اذا كانت تريد فرصة لانقاذ الوضع" وقال التقرير ذاته " الولايات المتحدة منخرطة في العراق في حرب يمكن ان تكون خسرتها بالفعل".
وفي وصف للعملية السياسية قال التقرير "انه رغم الجهود التصحيحية النشطة والمتواصلة، فان عملية التحول ما عاد يمكن ان تنجح في الاسلوب المتبع الان، أي كنقطة ذروة للعملية التي تمضي منذ سقوط نظام البعث، لقد اصبحت هذه العملية فاقدة الصدقية الى حد مفرط، ملوثة الى حد مفرط، ومرتبطة الى حد مفرط ايضا بشريك امريكي فقد العراقيون ايمانهم بامكان انقاذه بمجرد تصحيحات طفيفة".
اما الجانب الامني فقد تناوله انتوني كوردسمان الخبير الاستراتيجي، حين استدعي بداية هذا العام للادلاء بشهادة امام الكونغرس فقال: "علينا ان نتوقف عن الكذب على العراقيين والشعب الامريكي والعالم عن جهودنا لانشاء قوات عراقية، وان لدينا 127 الف شخص في هذه القوات من النوع الذي نحتاجه لمحاربة تهديد عدائي، وذو خبرة، لدينا فقط حوالي (7-11) الفا من الذين بدأ يكون لديهم التدريب وبعض المعدات الضرورية".
ولقد دفعت هذه الحقائق بالخبير البريطاني المحاضر في كلية كوين ماري توبي دودج والذي نشر مؤخرا كتابا" عن العراق للقول في جريدة الاندبندنت البريطانية: يبدو من المؤكد تقريبا ان العنف المتزايد سيجبر الولايات المتحدة على ان تترك العراق قبل الآوان، وان تسحب قواتها خارجا"، وبدلا" من ان يصبح العراق نموذجا" للديمقراطية فان الخطر هو ان يصبح مركزا" لعدم الاستقرار المستمر وموقعا" لتفريخ العنف والتطرف، وسيكون هذا اهانة كبيرة ولكنه ايضا جرعة دواء لا تستطيع الولايات المتحدة الا ان تبتلعها".
ولا يختلف المشهد الدرامي في العراق عن بقية المشاهد، بل ربما هو اكثرها درامية، ويكفي ان ندرك ان بغداد نفسها لا تصلها الكهرباء الا ساعتين في اليوم، أي ساعة كل احدى عشر ساعة، لكي ندرك كيف وصلت الامور في ظل الاحتلال، ورغم ان مليارات من الدولارات قد انفقت " فلم يتمكن العراق من الحصول الا على 3500 ميغاوات من الطاقة الكهربائية، فيما انه وبعد 12 عاما" من الحصار وقبل الاحتلال كان يحصل على 4000 ميغاوات"، والكلام هنا لمعهد بروكيغنز.
وبالطبع ايضا" هذه حال الماء، وقد باتت اكثر مياه الشرب إما مقطوعة او ملوثة، وكذلك الصحة والتعليم ناهيك عن البنزين والمازوت وسائر المشتقات النفطية حتى صح في العراق قول الشاعر:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
اما المشهد الاقتصادي، فاذا كانت "البورصة"، كما قال بالامس الصحافي ادوارد ونغ (Wong) في صحيفة بغداد جورنال، "تعكس بصورة او اخرى ثقة المجتمع باقتصاده، فان الارقام التي تظهر على شاشة البورصة العراقية، التي اسسها بشكلها الحالي بول بريمر قبل عامين، تكشف ان الثقة في هذا البلد وصلت الى ادنى مستوياتها، فلقد خسر مؤشر الاسهم وحده حوالي الثلثين من قيمته في السنة الماضية.
اما معّدل البطالة حسب ونغ فقد بلغ 60%، فيما توقفت تقريبا معظم صادرات النفط الى تركيا بسبب عمليات نسف الانابيب النفطية.
اما المشهد الامني مريع الى ابعد الحدود، وجيش الاحتلال المسؤول قانونيا عن امن البلاد – حسب الاتفاقيات ذات الصلة – بات هو مصدر الخلل الامني حسب رأي اكثر من 73% من العراقيين الذين، وبموجب استطلاعات اجرتها مؤسسات ابحاث امريكية، يرون ايضا ان "العراق يصبح اكثر أمنا" وأمانا" اذا خرج منه الاحتلال".
واذا كان البعض يعمد الى تصوير التدهور الامني في العراق مقدمة لحرب اهلية فيسارع في دعوة قوات الاحتلال الى البقاء ، فان هذا المنطق، بحد ذاته، يؤثر الى طبيعة الجهات التي تقف وراء مثل هذا التدهور الامني، وقد وصل في بعض الحالات الى مستوى مريع ومرعب، كما جرى في بعض المساجد والحسينيات والكنائس، وفي المقامات المقدسة والتجمعات المدنية، وفي القتل المرعب على الهوية، وفي رمي الجثث هنا وهناك، وفي عمليات تهجير طائفي ومذهبي مريعة.
ان قصة الجنديين في القوات الخاصة البريطانيين واعتقالهما وهما في طريقهما الى تفجير احدى الحسينيات في مدينة البصرة، وقصص عديدة يرويها العراقيون عن عملاء مكشوفين ينفذون عمليات وحشية قذرة، واشارات عديدة الى دور الموساد وبعض الشركات الامنية في هذا الامر، تظهر بوضوح ان من يقف واء لتدهور الامني جهات معادية للعراق وللمقاومة فيه، وان الاحتلال مسؤول مباشرة او غير مباشرة عن هذه العمليات، وان مرتكبيها ، أيا" كانوا، ينفذون مخططات المحتل، عن قصد او غير قصد، عبر اغراقهم العراق في بحر من الدم يسمح للبعض داخل العراق وخارجه ان يرفعوا اصواتهم بالدعوة الى بقاء المحتل.
يبقى المشهدان الاقليمي والدولي حيث نستطيع القول انه رغم الضربات العديدة التي تلقتها الادارة الامريكية على المستوى الدولي، وآخرها في يوم واحد نتائج الانتخابات الايطالية، وانتخابات البيرو في امريكا اللاتينية، فان المشهد الاقليمي ما زال هو الساحة الاكثر تجاوبا مع الارادة الامريكية في مشروعها العراقي، وان القمم العربية والاسلامية لم تخرج، منذ احتلال العراق، بل وقبله، في قراراتها وتوجهاتها عن الاجندة الامريكية، بل انها كانت تستخدم كممر لقرارات على المستوى الدولي حيث لم تشغل الحكومة التي نصبها الاحتلال مقعد العراق في الامم المتحدة الا بعد ان شغلته في الجامعة العربية في قرار مخالف لميثاق الجامعة ولاتفاقية الدفاع العربي المشترك ولكل روابط الاخوة العربية، وفي تنكر فاضح، لكل ما قدمه العراق على مدى العقود لمختلف الدول العربية، كما لكل معاناة العراقيين اليوم تحت الاحتلال.
ويكفي ان نعيد التذكير بما ورد في الصفحات 213 و215 من الكتاب الشهير " لبوب وودورد" "خطة الهجوم" لندرك حجم تواطؤ بعض المسؤولين العرب في التحريض على الحرب على العراق.
ولو أقتصر الامر على الحكومات لهان الامر، بل ان العديد من النخب والقيادات الحزبية والنقابية العربية قد ادارت ظهرها لما يجري في العراق، متذرعة باجندات خاصة، او بذرائع متعددة، متنكرة في ذلك لا للشعب العراقي ومقاومته الباسلة بل ايضا لشعوبها ذاتها، وهي المشدودة بجوارحها وعقولها واهتمامها الى ما يجري في العراق، وفي فلسطين، ومتطلعة الى السبل التي تدعم من خلالها المقاومة العراقية الباسلة لتجد انفسها امام حكومات موزعة بين الخوف والعجز والتواطؤ، وامام قوى سياسية موزعة بين العجز والانشغال والمراعاة الضمنية لواقع الحال.
وعلى الرغم من ان صوت بعض الاقلام وبعض وسائل الاعلام وبعض المؤتمرات والهيئات ما زال يصدح في دعم المقاومة العراقية، الا ان المشهد العربي والاسلامي ما زال هو المشهد الاكثر قتامة بين كل المشاهد المتصلة بالمشهد العراقي.
وفي المشهد الاقليمي لا بد من وقفة امام الموقف الايراني مما يجري في العراق، والذي قد يحتاج الى نقاش مطول، لكن نقول انه رغم اهمية تنبيه ايران لضرورة الاهتمام بكل الملاحظات النقدية التي توردها قوى عراقية مناهضة للاحتلال بسبب ممارسات وتصرفات معروفة، خصوصا التي تصدر عن جهات محسوبة على ايران، الا ان علينا ان ندرك ان التحليل المنزه يرى في المقاومة العراقية ضد الاحتلال الامريكي سندا" موضوعيا" للمانعة الايرانية في وجه الضغوط الامريكية والاوروبية في مسألة الملف النووي السلمي الايراني، تماما كما ان هذه الممانعة تشكل دعما" موضوعيا" لهذه المقاومة في العراق وفي كل المنطقة، مما يتطلب حوارا بين ايران وبين كل الاطراف العراقية المقاومة والمناهضة للاحتلال دون استئناء، وهو حوار يمكن لسوريا ولحزب الله في لبنان ولكل القوى الوطنية والقومية والاسلامية ان تسهم في انضاجه وتوفيرالظروف المؤاتية لاغلاق اية ثغرة يمكن لاعداء العراق وايران والامة النفاذ منها.
لقد آن الآوان لكي يدرك الجميع ان المقاومة العراقية الفعلية للاحتلال، لا تلك التي تجري تضخيمها من قبل الاعلام الامريكي لاغراض معروفة كما ورد في وثائق عسكرية واستخباراتية نشرتها قبل ايام صحيفة "الواشنطن بوست" والتي اكدت معلومات نشرت سابقا" ان نسبة المقاتلين غير العراقيين، وهم مجاهدون اشداء على كل حال ، لا تمثل سوى جزءا" صغيرا" جدا" من المقاومة، هي قوة فعلية لكل العرب والمسلمين بما فيهم ايران، تماما" مثلما ان القدرات العلمية والتكنولوجيا النووية التي تمتلكها ايران او أي بلد عربي او مسلم، هي قوة لكل العرب والمسلمين، بما فيهم المقاومة العراقية، بوجه الهيمنة الامريكية والمشروع الصهيوني، وان الطريق للاستفادة من هذه القوى جميعا" يكمن في بناء منظومة تضامن عربية واسلامية جامعة، وأمن عربي واسلامي مشترك ومشروع مقاوم واحد يمتد من كابول الى غزة، كبديل لسياسة الاذعان للاملاءات الامريكية، واستقبال القواعد والاساطيل الامريكية.
ولحسن حظنا وحظ الشعب العربي، ان في المشهد الدولي من ما زال مدركا للترابط بين المقاومة العراقية وبين حركة مواجهة الهيمنة الامريكية على امتداد العالم، فتخرج في اكثر من 200 عاصمة ومدينة في العالم مسيرات تندد بالحرب والاحتلال في العراق، وتودي صناديق الاقتراع ببعض رموز هذه الحرب اللاشرعية واللاقانونية فيخسر برلسكوني في ايطاليا رابع اربعة في التخطيط العدوان على العراق، وقبله خبر ازنار في اسبانيا، فيما تصل شعبية شريكيهما بوش وبلير في الانخفاض الى نسب غير مسبوقة.
وتأثير الحرب على العراق واضح في كل هذه التطورات سواء في اوروبا او في امريكا اللاتينية، اذ ان اول ما وعد به السيد برودي الفائز في الانتخابات الايطالية هو سحب قوات بلاده من العراق فور تسلمه السلطة، فيما تتسع رقعة المساحة الجغرافية والسكانية الخارجة عن سيطرة واشنطن في امريكا اللاتينية ليتتعزز موقع فيدل كاسترو، ومعه شافيز الذي كان الرئيس الوحيد في العالم الذي تحدى الحصار الامريكي على العراق فزاره قبل الحرب مؤكدا" ان المعركة الدائرة في بلاده لاسقاطه آنذاك كانت جزءا" من الحرب التي يخططون لشنها على العراق.
واذا اضفنا الى هذه الاشارات المتعددة، ما يمكن وصفه بالتململ الروسي والصيني من سياسة القطبية الاحادية الامريكية المتبعة منذ عقد ونيف، بالاضافة الى سحب العديد من دول ما يسمى "بالتحالف" لقواتها في العراق، وحتى في بريطانيا فان المسؤولين لا يخفون رغبتهم في التعجيل بسحب القوات من العراق بعد ان اعادوا فعلا قسما منها الى بلادهم لوجدنا انقلابا متصاعدا في المشهد الدولي لغير صالح البيت الابيض ومشروعه الامبراطوري.
ولعل في تصريحات وزير خارجية بريطانيا الاخيرة حول ان "الحرب على ايران ستكون عملا احمق" تظهر بوضوح حجم الندم الذي يطبع النظرة البريطانية الى التورط في تلك الحرب على العراق.
ايها الاخوات والاخوة
ان استعراض هذه المشاهد جميعا، ما عدا المشهد العربي والاقليمي، يوحي بعمق المأزق الذي يعيشه الاحتلال الامريكي، وباقتراب هزيمته، حيث يحاول ان يقلّل من حتمية وقوعها ما يحاك للعراق من فتن وحروب اهلية...
ولكن هل يعني اقتراب الاحتلال من الهزيمة، هو اقتراب العراق بشعبه ومقاومته من الانتصار؟
هذا السؤال ينبغي ان يكون الان محل دراسة معمّقة وناضجة وعلمية من كل الحريصين على مستقبل العراق العربي الديمقراطي الموحد كما على مستقبل مشروع المقاومة الذي هو مشروع تحرير وديمقراطية في آن معا.
وللاجابة على هذا السؤال، فانني اعيد التذكير بثلاثة "ميمات" سبق لي ان طرحتها في الدورة الرابعة عشرة للمؤتمر القومي العربي في صنعاء في أوائل حزيران عام 2003 وهي "مقاومة"، "مصالحة"، "مراجعة".
فالانتصار على المحتل لا يمكن ان يتم دون مقاومة، ودون مقاومة مسلحة بشكل خاص، تجعل من اعباء التكاليف البشرية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاخلاقية على الدول المحتلة اكبر بكثير من المكاسب والارباح التي تجنيها.
والمقاومة في العراق لن تتمكن من الانتصار السريع على اعدائها الا اذا اقترنت بمصالحة وطنية شاملة بين كل الوان الطيف السياسي والاجتماعي العراقي الرافض للاحتلال بعد ادراكه قانون كل حركات التحرر والمقاومة في العالم وهو اخضاع كل التناقضات الجزئية والثانوية، على اهميتها، للتناقض الرئيسي مع المحتل.
واذا كان البعض يرى في تحقيق مصالحة عراقية جامعة امرا" صعبا"، وربما مستحيلا"، فان من حقنا ان نسأل ألم تنجح " جنوب افريقيا" مثلا"،وبقيادة منديللا، في انجاز مصالحة بين اطراف ارتكب بعضها مظالم ومجازر عنصرية وصلت الى حروب ابادة بحق بعضها الآخر... الم يتجاوز اللبنانيون في مصالحات تاريخية حروبا" ومجازر جماعية واغتيالات من اجل ان يعم السلام والوحدة بلدهم... ألم تشهد بلدان عديدة في العالم حروبا اهلية بين ابنائها، ويينها وبين دول اخرى، ثم نجحت في التغلب عليها حين غلّبت منطق الحكمة والتعقل والمصلحة العليا على اسلوب التوتر والتشنج ونكء الجراحات والاستسلام لعصبيات ضيقة.
طبعا لا يمكن لهذه المصالحة ان تنجح دون ان ترافقها مراجعة نقدية يقوم بها الجميع، احزابا" وجماعات واشخاصا"، لتجاربهم منذ ان دخل العراق دوامة العنف الاهلي في اواسط الخمسينات حتى هذه الساعة.
واذ كان البعض يرى في هذه المراجعات، مع ما يمكن ان يتخللها من اعتذارات لهذه الجهة او تلك، ضعفا" او مهانة، فانه يقع في خطأ كبير، لأن كل القادة الكبار في العالم، وكل الحركات التاريخية، كانت تنتزع المزيد من الاحترام والثقة حين كانت تقوم بهذا النقد الذاتي، وهنا علينا ان نتذكر مثلا" قريبا" في تاريخنا هل ضعف جمال عبد الناصر أوهان حين تحمّل مسؤولية الهزيمة وقدم استقالته ام انه ازداد قوة مكّنته من اعداد الجيش المصري لحرب الاستنزاف ثم للعبور المجيد في حرب اوكتوبر.
واذا كانت كل القوى الوطنية والاسلامية في العراق مدعوة للقيام بمثل هذه المراجعة النقدية لتجاربها، كل حسب دوره ووزنه وفعاليته، فان البعثيين بالذات، مدعوون الى قيادة هذه المراجعة، بكل ثقة بالنفس والشعب، فهم الذين تسلموا السلطة على مدى 35 عاما، وهم يشكلون تيارا" كبيرا" في المجتمع العراقي بلغ عدد الذين شملتهم قرارات هيئة الاجتثاث الشهيرة وحدها اكثر من 100 الف بعثي، وهم الذين يتداولون في جلساتهم الخاصة ملاحظات نقدية لتجاربهم السابقة.. فلماذا لا يفعلون ذلك علنا" دون مكابرة او ارتباك فيطلقون داخل المجتمع العراقي ثقة واطمئنانا بأن اخطاء المراحل السابقة وخطاياها لن تتكرر، وان احتكار السلطة لن يعود مجددا، وان العراق لكل ابنائه وليس لحزب او فئة او جماعة، وان من يحرر الارض هو الذي سيسهم في صياغة مستقبل العراق.
في ضوء هذه الاليات الثلاث يمكن للعراقيين ان يتقدموا لتحصين وحدتهم الوطنية، وللاقلاع نهائيا" عن الاستقواء بالاحتلال بوجه بعضهم البعض، خصوصا" ان الاحتلال الذي نجح في جذب بعض القوى والجماعات السياسية المتضررة من النظام القائم قبل الحرب لكي تكون غطاء لمشروعه التقسيمي التدميري ضد العراق، يحاول اليوم، وبالمقابل، ان يستميل فئات وجماعات عراقية جديدة لجهته لكي يواجه عراقيين آخرين خصوصا بعد ان غرق بعضهم في ممارسات دموية كان يأخذها على النظام السابق.
وفي هذا الاطار فان مستقبل المقاومة العراقية ومقومات انتصارها يتقررن في ضوء المبادئ التالية:
اولا: ان مواجهة خطة "فرق تسد" التي هي الاستراتيجية المعتمدة في كل مكان وزمان من قوى الاحتلال والهيمنة، تتطلب أمرين جديين:
حوار عراقي – عراقي لا سيما بين القوى المناهضة للاحتلال، وخصوصا بين التيار الصدري والبعثيين باعتبارهما من ابرز القوى الموجودة في الساحة العراقية، ومن القوى الرافضة للاحتلال الامريكي منذ اليوم الاول.
ومع تقديرنا للصعوبات الكبيرة التي تحول دون قيام مثل هذا الحوار، الا انني اعتقد ان جهات موثوقة من الطرفين كهيئة علماء المسلمين والمؤتمر التأسيسي الوطني وبعض الشخصيات الوطنية العراقية والعربية يمكن ان تسهم في انضاج ظروف الحوار وتجاوز اية صعوبات تعترضه.
والامر الثاني: تشكيل جبهة من كل القوى الوطنية والقومية والاسلامية المناهضة للاحتلال، والمدركة بالتجربة الملموسة عقم المراهنة على عملية سياسية يوجهها الاحتلال ويتلاعب بوجهتها ويعرقل اية خطوة قد تصل اليها هذه العملية ولا تتطابق مع مصالحه ومخططاته.
ثانيا: قيام تنسيق فعلي بين كل تشكيلات المقاومة على اختلاف ميولها الفكرية والعقائدية، يعزز من فعالية المقاومة. يوحّد برامجها، ويسعى لتنقية عملياتها من كل المحاولات التي يقودها المحتل وادواته لتشويه صورتها لا سيما العمليات التي تستهدف المدنيين وتجمعاتهم تحت أية ذريعة او مبرر، فهذه العمليات تخدم المحتل وتعيق انتصار المقاومة.
فاذا كانت ظروف السنوات السابقة قد دفعت بهذه التشكيلات الى اعتماد آليات معقدة وخاصة في عملها، وابرزها اللامركزية التنظيمية فان الوقت قد حان الى الانتقال الى شكل اعلى في التنسيق بينها مع الحفاظ الدائم على مستوى عال من السرية في الاداء.
ثالثا: اهتمام جدّي بالعلاقات مع المحيط الاقليمي والدولي على قاعدة تعزيز العلاقة مع الجهات الصديقة، والعمل على كسب الجهات المحايدة، وصولا" حتى الى تحييد الجهات الاقليمية المعادية.
ان لهذا الاهتمام آليات عمل، وطرق اتصال، وخطاب سياسي، وتحصين ساحة المقاومة من لغة المهاترات والاداء المتوتر.
رابعا: تركيز الجهود والبنادق باتجاه الاحتلال الامريكي وافشال اية محاولات لتوجيهها باتجاهات اخرى، وللمقاومة العراقية في هذا المجال دروس عربية ينبغي الاستفادة منها.
فحزب الله في لبنان مثلا واجه بحكمة وبعد نظر جملة محاولات لاستدراجه الى معارك جانبية، بدءا من معارك مع الجيش السوري عام 1987 بعد ان فقد اكثر من عشرين مقاتلا في احد ثكناته في بيروت الى معارك مع الجيش اللبناني اثر اطلاق النار على تظاهرة لانصاره ذهب ضحيتها 13 شهيدا في 13 ايلول/سبتمبر 1993، وقد ادت الحكمة في تفويت الفرص على المصطادين في الماء العكر الى ان بات الجيشان السوري واللبناني درعين قويين للمقاومة.
وفي فلسطين نجحت القوى الفلسطينية، الوطنية والاسلامية، في افشال مخطط امريكي – صيهوني في جعل اتفاق اوسلو ممرا" اجباريا" الى فتنة اهلية وداخلية، وقد تجاوزت هذه القوى عدة افخاخ نصبها المحتل لاشعال النار بين الاخوة، حتى نجح الفلسطينيون في اقامة علاقة ديمقراطية شفافة كان من ابرز نتائجها الانتخابات الاخيرة التي كشفت، من جملة ما كشفت ، اكذوبة الادعاءات الامريكية والاوروبية والاسرائيلية باحترام الخيار الديمقراطي للشعوب.
خامسا: تحّمل القوى الشعبية العربية والاسلامية مسؤولياتها كاملة ازاء مقاومة الشعب العراقي سواء من خلال الضغط على الحكومات لاستقبال مكاتب وممثلين علنيين لهذه المقاومة وتوفير الحصانات اللازمة كما كان الحال مع ثورات تحرير مماثلة، او من خلال تقديم الدعم الانساني والمادي للشعب العراقي لمساعدته على الصمود بوجه الاحتلال.
سادسا: تحمل القوى الشعبية العربية والاسلامية مسؤولياتها بفتح افاق دولية لهذه المقاومة ومساعدتها بكل ما يلزمها لتطوير فعاليتها واساليب عملها خصوصا اذا ادركنا النتائج السلبية الكبيرة الناجمة عن الحصار المفروض على الشعب العراقي ومقاومته.
سابعا: التنبه الدائم والمستمر لدور الكيان الصهيوني في مؤامرة الاحتلال على العراق، تخطيطا" وتحريضا" وتنفيذا" على مختلف المستويات، انطلاقا" من المشروع الصهيوني الاصلي الذي يعتبر ان تفتيت العراق هو المدخل الى تفتيت المنطقة كلها.
فاذا كانت قضية فلسطين هي القضية المركزية للامة العربية فان قضية العراق اليوم هي البوابة المركزية والمدخل الرئيسي الى تلك القضية، فهزيمة المشروع الامريكي في العراق ستؤدي حتما" الى زعزعة الكيان الصهيوني في فلسطين خصوصا" مع تصاعد الاتهامات داخل الولايات المتحدة الى حكومة تل ابيب واللوبي الصهيوني في امريكا بانهما كانا يدفعان بقوة الى توريط الدولة الكبرى في المستنقع العراقي.
ثامنا: التنبه الى مخاطر لعبة التفاوض التي يحاول من خلالها السفير الامريكي زلماي خليل زاده ان يوقع بين تشكيلات المقاومة من جهة، كما بين الفئات العراقية المتعددة.
فدروس تجارب حركات التحرير واضحة، خصوصا التجربة الجزائرية، حيث يروي الاستاذ عبد الحميد مهري كيف أفشلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية خطة فرنسية للالتفاف على الثورة حين طرحت باريس عليها برنامجا من ثلاث نقاط: انتخابات، مفاوضات، فإعلان الاستقلال، فاجابت قيادة الجبهة بقلب الاولويات حيث تعلن فرنسا اولا" استقلال الجزائر، ثم تدخل في مفاوضات لتنفيذ هذا الاستقلال، ثم تجري انتخابات جزائرية.
وحين واصلت الجبهة معركتها ضد الاستعمار الفرنسي، اضطرت الحكومة الفرنسية الى القبول بالشروط الجزائرية.
واذا كنا لا ننكر ان مفاوضات ستحصل حتما بين المقاومة والمحتل في مرحلة قادمة ، فاننا نعتقد ان الحكمة تقتضي بان لا تبدأ اية مفاوضات قبل اعلان الحكومة الامريكية قرارها بالانسحاب من العراق.
وحينها فقط يمكن ان تبدأ مفاوضات في ضوء مبادرات وطنية واضحة كالتي اطلقها في مطلع العام الدكتور خير الدين حسيب الامين العام السابق للمؤتمر القومي العربي بعد تشاور مع عدد من فصائل المقاومة والقوى الوطنية المناهضة للاحتلال.
ايها الاخوات والاخوة
في تقرير بعنوان "المعركة حول مستقبل بغداد" نشرت الخدمة الاجنبية في الواشنطن بوست تقريرا لجون وارد اندرسون، وجوناثان فاينر ذكرا ان المسؤولين الامريكيين قد تنبأوا بان عام 2006 سيشهد معركة بغداد، وان جهود" المتمردين" كما الجهود الرامية لمواجهتهم سيزداد تركيزها على هذه المدينة التي يسكنها حوالي سبعة ملايين شخص.
وفي تقرير اخر نشرته النيويورك تايمز اوحى فريق عمل مشترك بين سفارة الولايات المتحدة في العراق والقيادة العسكرية في بغداد، بان الانطباع الذي تروج له الادارة الامريكية بان معظم المحافظات العراقية تعيش حالة من الهدوء والامن ليس انطباعا صحيحا ورسم خارطة اعطى فيها الوانا" لكل محافظة حسب مستوى الهدوء فيها، فكان اللون الاحمر (أي الوضع الخطير) من نصيب "الانبار" فيما كان اللون البرتقالي (أي الوضع الدقيق) من نصيب ست محافظات بينها بغداد وبعقوبة والبصرة بالاضافة الى ثلاث محافظات اخرى تقوم الى الشمال منها، فيما شمل اللون الاصفر (أي الوضع المعتدل ولكن المرشح للاضطراب) ثماني محافظات تقع في الوسط والجنوب ولم يعتبر الوضع آمنا" الا في المحافظات الكردية الشمالية.
ان مهمة المقاومة هي في ان تجعل لون الخريطة باسرها لونا احمرا" عبر اتحاد العراقيين لطرد الاحتلال واقامة نظامهم الديمقراطي التعددي الذي يصون وحدة العراق وعروبته وحتى يعود العراق كله امنا مزدهرا" وسندا" لامته العربية الاسلامية.
وكما كانت ثقتنا بانطلاقة المقاومة كبيرة يوم احتلال العراق، فهي اليوم اكبر بانتصارها وتجاوز كل ما يحاك لها وللعراق من فتن ومكائد.