إنهم يشتروكم ، فإحذروهم للأستاذ فؤاد الحاج
إنهم يشترونكم فاحذروهم
د. فؤاد الحاج
ما هو التجسس، وما هو التنصت، وكيف تعمل الأجهزة الاستخبارية في جمع المعلومات، وكيف يتم الاختراق، وما هي شبكات التجسس؟ وما هي المجتمعات المؤهلة للغزو؟ أسئلة مع غيرها من التساؤلات لا بد أن تطرح دائماً في المجتمعات التي تتعرض لحملات إعلامية ومن ثم لمراحل الغزو بأنواعه ومنها الثقافي الذي هو باعتقادي أهم مرحلة من مراحل الغزو الإمبريالي في العصر الحديث، وهنا يأتي سؤال يفرض نفسه في هذا المجال وهو ما هي المجتمعات المحصنة ضد أنواع الغزو؟
للإجابة على ذلك لا بد من أن نعود قليلاً إلى الوراء إلى بدايات القرن العشرين لنلقي نظرة قد تبدو تشكيكية لدى البعض، لنرى وبالأدلة كيف لعب المثقف العربي ودون قصد، (كي لا يقال بأننا نشكك في دور المثقفين العرب) دور تخريبي في مراحل الانحطاط الثقافي وكيف تم تغيير بنية المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج، التي نرى آثارها اليوم في التشرذم وتفتيت المجتمعات، مع تنامي دور الأحزاب القومية العربية وكيف تم تهديم تلك الأحزاب وتخريبها من الداخل، وهل كانت تلك الأحزاب مؤهلة لتثبيت وجودها الفعلي على أرض الواقع، أم أن نظرياتها كانت شعارات فقط؟
منذ بدايات القرن العشرين لعبت فرق أو مجموعات المبشرين أو التبشيريين بالمذاهب ومنها المذهب البرتستنتي المسيحي دوراً هاماً وخطيراً في شق وحدة المسيحيين في المشرق العربي وصولاً إلى عدد من البلاد الإفريقية سنذكر بعضها لاحقاً، وكان دور تلك المجموعة كدور باقي المجموعات الأخرى مثل "شهود يهوا" وجماعات "المساعدات الخيرية الدولية" أو "جماعات الحفاظ على البيئة الدولية" وفي المحصلة كل المنظمات والمؤسسات التابعة لما يسمى بهيئة الأمم المتحدة دون استثناء، وغيرهم من المنظمات أو المؤسسات المحلية – الدولية الثقافية والدينية والاجتماعية والخيرية وما إلى هنالك من تسميات من مراكز دراسات وبحوث التي تعمل تحت شعارات وأسماء مختلفة ومتنوعة، كل ذلك وسواه لم يكن في واقع الأمر إلا الجزء الصغير الظاهر من صخرة كبيرة في وسط المحيط أو البحر، حيث أن هذا الظاهر خداع في مظهره لأن الجزء الأكبر من تلك الصخرة مغمور في المياه لا تراه العين من فوق إلا لمن أراد الغوص في الأعماق ليرى المخفي الأعظم، ففي الظاهر نرى أن تلك المنظمات والمؤسسات تدعو إلى المحبة والتعاون في نشر الخير والسلام في العالم، ولكن ما خفي وهو الأعظم والأهم، فبين الظاهر من دعواتهم وتبشيرهم، وبين المخفي تم تفتيت المسيحيين العرب، وبين الظاهر وبين المخفي تم اختراق البلاد العربية، ومن خلال التفتيت والاختراق نخروا حسد الأمة العربية، وبذلك التفتيت والاختراق منحوا عدو الأمة الإقليمي والدولي الفرص للتسلل إلى داخل النسيج الاجتماعي للأمة ليحرفوا أبناء الأمة من خلال تفكيك أو تشرذم العائلة ومن ثم إبعادهم عن الدور التاريخي الذي من المفترض أن يضطلعوا به للتغيير الشامل نحو الغد الأفضل، ومن خلال التفتيت والاختراق تم الاحتلال الثقافي والاقتصادي، وبذلك أيضاً تم الاستعباد تحت أسماء وشعارات "العولمة" و"الديمقراطية"، كما تم منع الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة، وكي لا نطيل في الشرح الذي من المفترض أن يكون كل واع ومدرك لأبعاد اللعبة السياسية الدولية والإقليمية في الوطن العربي أن يعرف أنه لم يعد هناك استقلال من خلال اختراق السيادة الوطنية، وهنا أشير إلى بعض ما قامت به المؤسسات والمنظمات تحت شعار التبشير بالمحبة والسلام والدين في لبنان وفي العراق وفي إفريقيا، ولا أشير هنا إلى الدور التخريبي الكبير والمباشر للمؤسسات الاقتصادية الأمريكية والفرنسية والبريطانية والمتعاونين معهم من أبناء البلاد العربية لأن ذلك معروف ولا يحتاج لتعريف كما أعتقد، (في مصر والأردن ولبنان على سبيل المثال) أما المنظمات الأخرى المذكورة ومن ضمنها الثقافية إن من خلال الملحقيات الثقافية التابعة للسفارات الأمريكية والفرنسية أو لتلك التي تعمل بشكل مستقل في الظاهر والتي لعبت دوراً أساسياً في عمليات جمع المعلومات لأجهزة المخابرات المختلفة وأهمها للـ(سي آي أي) التي استعملتها لتطوير خدماتها لمعرفة كيفية التحكم على البلاد العربية، فكما ذكرت أن البعثات التبشيرية البروتستانتية قد شقت الصف المسيحي في لبنان منذ بدايات القرن العشرين، حتى أن عدداً من المسيحيين اللبنانيين آنذاك فروا من لبنان إلى مصر لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا وأصبحوا من المشاهير في عالم الأدب والإعلام، أما في إفريقيا وتحديداً في جنوب السودان فقد لعبت البعثات التبشيرية المسيحية ومنذ منتصف ستينات القرن الماضي، دوراً أساسياً في ما آل إليه الوضع في السودان اليوم، وتنطلق هذه البعثات التبشيرية من عدد من الدول الأوروبية كما هو معروف ولكن أهمها تنطلق من مدينة ملبورن في أستراليا – على اعتبار أن اسم استراليا قد يبدو نظيفاً لدى البعض وأنها بلد يحلم به عدد كبير من المهاجرين -، مع التذكير بأن أهم قواعد التنصت والتجسس التي تستعملها أمريكا عبر الأقمار الصناعية موجودة في استراليا – كان يوجد في استراليا حتى منتصف تسعينات القرن الماضي 6 قواعد عسكرية أمريكية بحجة حماية أمن استراليا من الصين ومن دول أخرى في المنطقة، ومنذ منتصف التسعينات وحتى اليوم ازداد عدد تلك القواعد العسكرية حتى وصل إلى 9 قواعد معظمها يتمترس في غرب وشمال استراليا -، وقد استخدمت هذه القواعد في العدوان ضد العراق عام 1991، وفي غزو العراق واحتلاله عام 2003، كما أن هذه القواعد استخدمت في منتصف سبعينات القرن الماضي في الحرب ضد اليونان، ودليل آخر على دور تلك البعثات التبشيرية هو ما آل إليه الوضع في تقسيم تيمور إلى شرقية وغربية حيث كان لتلك البعثات التبشيرية الدور الهام في تقسيم تيمور إلى شقين مسيحي ومسلم إضافة لعمليات التجسس، فقد بدأ الاهتمام بتيمور منذ نهايات ستينات القرن الماضي إلى أن تم تنصير معظم أهالي شرق تيمور وبذلك تم زرع بذور الفتنة الطائفية التي وصلت إلى حد الاقتتال بين أبناء تيمور وكان ما كان من دمار وحروب فتدخلت تلك الهيئة الأممية المسماة هيئة الأمم المتحدة بحجة تقرير المصير، وهكذا تمت السيطرة على الجزء الغني بالنفط من تيمور وتم إعلان "استقلال" تيمور الشرقية وجرت انتخابات قالوا أنها "انتخابات ديمقراطية" وتم تسليم ذلك الجزء من تيمور إلى القوات الأسترالية بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار، والجدير ذكره هنا أن تلك البعثات التبشيرية التي لعبت الدور الهام في زرع بذور الفتن والطائفية في تيمور، وكذلك البعثات التبشيرية التي غزت جنوب السودان باسم تعاليم السيد المسيح عليه السلام تتخذ من ملبورن في استراليا قاعدة أساسية لها باسم السلام والمحبة!، وإذا أردنا أن نعرف المزيد عن دور البعثات التبشيرية فللنظر إلى خارطة العالم ولنبحث عن النفط والفوسفات والحديد والنحاس والذهب والألماس واليورانيوم وغير ذلك من خيرات طبيعية تختزن الأرض في أي بلد في العالم، فأنه لا محال أنك ستجد مبشرين باسم السلام والخير والمحبة والحفاظ على البيئة وغير ذلك من منظمات!!
وبما أن لبنان ليس بلد نفطي كما هو معروف ولكنني أؤكد بأنه يوجد بباطن أرضه كميات من النفط قيل أنها قليلة وأن استخراجها يكلف الكثير وأنها ليست بكميات تستأهل إخراجها، هكذا قيل في ستينات وسبعينات القرن المنصرم، على أية أن ذلك غير صحيح وهذا ليس مجال مناقشته الآن، وعندما يتم استخراج النفط في لبنان عندها نعرف حقيقة الأمر، وأؤكد بأن النفط موجود على طول ساحل شمالي لبنان ابتداء من الشاطيء المحاذي لنهر البارد وصولاً إلى الحدود البحرية مع سوريا، وأن ما يجري الآن هناك من معارك بين الجيش اللبناني وبين جماعة أسموها (فتح الإسلام) منذ أكثر من شهرين له علاقة بما هو مرسوم من مخططات اقتصادية سياسية أمريكية دولية لشمال لبنان وقد أشرت إلى ذلك مطولاً في كتابات سابقة منذ نهايات تسعينات القرن الماضي وحتى الأمس القريب، على أية حال إن سبب الاهتمام بلبنان ليس النفط كما أسلفت ولو آنياً على الأقل أو لحين كما يقال، بل أن المقصود هو حماية الكيان الصهيوني والانطلاق منه لغزو المجتمعات العربية سياسياً وثقافياً وفنياً كما ظهر مؤخراً من خلال برامج الفضائيات التي تم من خلالها غزو معظم إن لم أقل كل البلاد العربية وأماكن تواجد المهجرين والمهاجرين العرب في بلاد الغرب، إضافة إلى إقامة قواعد أمريكية يصل تعدادها إلى أربعة إحداها في شمال لبنان في بلدة القليعات والسيطرة على قمة جبل الباروك التي يريدون استعمالها كقاعدة للتنصت والمراقبة، بحيث يمكنهم أن يضعوا فيها أجهزة تنصت متطورة يصل مداها لتغطي وتكشف مساحة تمتد من لبنان على مدى البحر وصولاً إلى مدخل مضيق جبل طارق الذي يصل البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، وخلالها أيضاً يمكنهم التنصت على البلاد المجاورة للبنان، وسيكون لهذه القاعدة هدف أساسي وهو حماية الكيان الصهيوني في حال إذا قرر هذا الكيان إعادة بعض قرى مرتفعات الجولان إلى سوريا بحيث ستبقى بعض المرتفعات الاستراتيجية في هضبة الجولان تحت سيطرة الكيان الصهيوني أو الأمريكي لا فرق ويتم وضع "أجهزة إنذار مبكر" فيها كما حدث في سيناء مصر وبإشراف ظاهري لما يسمونه هيئة الأمم المتحدة وقواتها المسماة "القبعات الزرقاء".
أما الاهتمام بجنوب السودان فهو وبشكل علني وصريح، إقامة قواعد أمريكية هناك لتسيطر على تلك المنطقة الغنية بالنفط، كما أنهم يسعون للسيطرة من جنوب السودان على مناطق وسط إفريقيا، وكذلك السيطرة على الصومال من أجل النفط والذهب والألماس وغيرهم من الخيرات الطبيعية الغنية فيها تلك الأرض، إضافة إلى أنهم يريدون تأمين السيطرة التامة على البحر الأحمر وعلى أجواء تلك المنطقة الممتدة من اليمن حتى الجزيرة العربية لحماية قواعدهم العسكرية هناك، والغاية من ذلك هو السيطرة على الثروات الطبيعية لتك البلاد.
وأود الإشارة هنا إلى أنه بعد أن تم استعمال البعثات التبشيرية كما حصل في شمال وبعض مناطق العراق، وكما حصل مع مختلف لجان التجسس التابعة لما يسمونها الأمم المتحدة ومجلسها الأمني التي دخلت إلى العراق تحت مسميات الكشف عن أسلحة الدمار الشامل منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، فأنهم اليوم يستعملون أسلوباً جديداً وهو ليس بجديد عملياً، لأن المنظمات الدولية والخاصة التي تعمل تحت مسمى الجمعيات الخيرية أو المساعدات الإنسانية ومنها منظمات أسترالية وأوروبية وأمريكية كانت قد استعملت هذا الأسلوب في لبنان وفي العراق وفي مصر والسودان واليمن والجزائر وغيرهم من البلاد العربية، أما الجديد في ذلك فهو استعمال "شركات أمن خاصة" وآخر ما كشف عنه النقاب في هذا المجال هي شركة (ايغيس ديفانس سيرفيسز) البريطانية التي تعمل على جمع المعلومات كما يقولون - أي التجسس - وتقديم تلك المعلومات للبنتاغون ويتوقعون كما ورد في تقرير كتبه (ستيف فينارو) نشر في جريدة (الواشنطن بوست) بتاريخ الأول من تموز /يوليو الماضي "أن يتم إنشاء وحدة تتألف من 1000 رجل تكون مهمتها حماية (فوج المهندسين) التابع للجيش الأمريكي"، وقد وقعت المناقصة على هذه الشركة بمبلغ 293 مليون دولار لفترة ثلاث سنوات ستنتهي قريباً كما يبدو، لأن هناك عروضاً قد بدأت تعلن عن المناقصة الجديدة، حيث تتنافس شركات بريطانية وأمريكية لتجديد قيمة العقد لتحل محل هذه الشركة، وقد بلغت قيمة العقد الجديد 474 مليون دولار أمريكي، غير أن الاحتجاجات ضد إدارة بوش قد أخرت صدور القرار بشأن الشركة الفائزة بالعقد الجديد، كما ورد في تقرير فيناور في (الواشنطن بوست).
ما يهمنا في هذا التقرير هو ما أعلنته (كريستي كليمنز) نائبة الرئيس التنفيذي للشركة المقيمة في أمريكا أن هدفهم "هو تقديم حقائق ميدانية لأسلاك الجيش، وقد أنفقت شركة (ايغيس) نحو مبلغ (425 ألف دولار أمريكي) من مال الشركة ومن تبرعات خاصة على أزيد من (100) مشروع خيري صغير في العراق، مثل ملاعب كرة القدم وبرامج تطعيم الأطفال، حيث تمكن هذه المشاريع الصغيرة الشركة من تطوير العلاقات مع المجتمعات التي تعمل فيها وجمع المعلومات في الوقت نفسه"!.
وقال (جاستن ماروتزي) المدير السابق للشؤون المدنية في الشركة وهو حالياً يعمل مستشاراً مع شركة أخرى في لندن، "أن الشركة قامت بتوزيع بذلات رياضية على مدارس الفتيات في إحدى مناطق شرق العراق حيث كان السكان يرمون فرق (إيغيس) بالحجارة عادة، وقد توصلت الشركة من خلال العلاقات التي تم نسجها بفضل هذا المشروع الخيري، إلى خلية تمرد كانت تعمل من داخل مكتب المسؤول المحلي في تلك المنطقة من شرق العراق فتحرك الجيش بناء على هذه المعلومة وقام بما يستوجب القيام به" بحسب قول (مارتزوي)، كما ورد في تقرير فيناور في (الواشنطن بوست).
وحالياً وتحت شعار (كسب القلوب والعقول) تم نشر عدد من المجموعات في مناطق أخرى من العراق لتقوم بما قامت شركة (إيغيس) من "أعمال خيرية" في شرق العراق!!
هكذا إذاً تعمل هذه المؤسسات الأمنية اليوم في العراق في سعيها للسيطرة الأرضية العصية عليهم.
وأخيراً ما هي المجتمعات المؤهلة للغزو؟ وما هي المجتمعات المحصنة ضد أنواع الغزو؟
لا توجد عملياً مجتمعات محصنة ضد أنواع الغزو، ولكن توجد نسب مئوية تختلف بين هذا البلد وذاك، أي أن كل المجتمعات في النهاية ليست محصنة، وكلها مؤهلة لأنواع الغزو الثقافي والفني، أما الغزو العسكري والديني فهو من أسهل ما يكون في البلاد التي لا يوجد لديها اكتفاء ذاتي زراعي وغذائي وصناعي نسبي، وشعوب البلاد التي تلبس مما لا تصنع، وتأكل مما لا تنتج، حيث يزداد عدد الفقراء كما يزداد فيها عدد الأغنياء، وتمنع فيها حرية الرأي والتعبير ويكثر فيها تكميم الأفواه ونزلاء السجون من السياسيين وأصحاب الأقلام الحرة، ولا توجد فيها مشافي ومدارس للمواطنين إلا لمن يملك المال والجاه، والكثير مما يمكن تعداده في هذا الصدد، ولكن أكتفي بما تقدم مع الإشارة إلى أن السيطرة في عالم اليوم تبدو واضحة لمن يمنح المال والكساء والغذاء وهذه بالطبع لا يمكن تقديمها خدمة خالصة لوجه الله الكريم وهو ما تقوم به البعثات التبشيرية و"المؤسسات الأمنية الخاصة" التابعة لقوى طاغوت الشر الصهيو-أمريكي، وأضيف بأن الخطر الكبير اليوم هي تلك المجموعات التي تنشر المخدرات في العراق، القادمة من إيران ومن الكيان الصهيوني ومع مرتزقة القوات الغازية والمحتلة، لذلك أقول إنهم يشترونكم فاحذروهم، وقديماً قيل لا توصي حريص، وقيل في المقابل أن الجوع كافر، وقيل كذلك اللهم احمني من صديقي أما عدوي فأنا كفيل به، وقيل أيضاً وما على الرسول إلا البلاغ.
ألا هل بلغت؟.. اللهم فاشهد..
ما هو التجسس، وما هو التنصت، وكيف تعمل الأجهزة الاستخبارية في جمع المعلومات، وكيف يتم الاختراق، وما هي شبكات التجسس؟ وما هي المجتمعات المؤهلة للغزو؟ أسئلة مع غيرها من التساؤلات لا بد أن تطرح دائماً في المجتمعات التي تتعرض لحملات إعلامية ومن ثم لمراحل الغزو بأنواعه ومنها الثقافي الذي هو باعتقادي أهم مرحلة من مراحل الغزو الإمبريالي في العصر الحديث، وهنا يأتي سؤال يفرض نفسه في هذا المجال وهو ما هي المجتمعات المحصنة ضد أنواع الغزو؟
للإجابة على ذلك لا بد من أن نعود قليلاً إلى الوراء إلى بدايات القرن العشرين لنلقي نظرة قد تبدو تشكيكية لدى البعض، لنرى وبالأدلة كيف لعب المثقف العربي ودون قصد، (كي لا يقال بأننا نشكك في دور المثقفين العرب) دور تخريبي في مراحل الانحطاط الثقافي وكيف تم تغيير بنية المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج، التي نرى آثارها اليوم في التشرذم وتفتيت المجتمعات، مع تنامي دور الأحزاب القومية العربية وكيف تم تهديم تلك الأحزاب وتخريبها من الداخل، وهل كانت تلك الأحزاب مؤهلة لتثبيت وجودها الفعلي على أرض الواقع، أم أن نظرياتها كانت شعارات فقط؟
منذ بدايات القرن العشرين لعبت فرق أو مجموعات المبشرين أو التبشيريين بالمذاهب ومنها المذهب البرتستنتي المسيحي دوراً هاماً وخطيراً في شق وحدة المسيحيين في المشرق العربي وصولاً إلى عدد من البلاد الإفريقية سنذكر بعضها لاحقاً، وكان دور تلك المجموعة كدور باقي المجموعات الأخرى مثل "شهود يهوا" وجماعات "المساعدات الخيرية الدولية" أو "جماعات الحفاظ على البيئة الدولية" وفي المحصلة كل المنظمات والمؤسسات التابعة لما يسمى بهيئة الأمم المتحدة دون استثناء، وغيرهم من المنظمات أو المؤسسات المحلية – الدولية الثقافية والدينية والاجتماعية والخيرية وما إلى هنالك من تسميات من مراكز دراسات وبحوث التي تعمل تحت شعارات وأسماء مختلفة ومتنوعة، كل ذلك وسواه لم يكن في واقع الأمر إلا الجزء الصغير الظاهر من صخرة كبيرة في وسط المحيط أو البحر، حيث أن هذا الظاهر خداع في مظهره لأن الجزء الأكبر من تلك الصخرة مغمور في المياه لا تراه العين من فوق إلا لمن أراد الغوص في الأعماق ليرى المخفي الأعظم، ففي الظاهر نرى أن تلك المنظمات والمؤسسات تدعو إلى المحبة والتعاون في نشر الخير والسلام في العالم، ولكن ما خفي وهو الأعظم والأهم، فبين الظاهر من دعواتهم وتبشيرهم، وبين المخفي تم تفتيت المسيحيين العرب، وبين الظاهر وبين المخفي تم اختراق البلاد العربية، ومن خلال التفتيت والاختراق نخروا حسد الأمة العربية، وبذلك التفتيت والاختراق منحوا عدو الأمة الإقليمي والدولي الفرص للتسلل إلى داخل النسيج الاجتماعي للأمة ليحرفوا أبناء الأمة من خلال تفكيك أو تشرذم العائلة ومن ثم إبعادهم عن الدور التاريخي الذي من المفترض أن يضطلعوا به للتغيير الشامل نحو الغد الأفضل، ومن خلال التفتيت والاختراق تم الاحتلال الثقافي والاقتصادي، وبذلك أيضاً تم الاستعباد تحت أسماء وشعارات "العولمة" و"الديمقراطية"، كما تم منع الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة، وكي لا نطيل في الشرح الذي من المفترض أن يكون كل واع ومدرك لأبعاد اللعبة السياسية الدولية والإقليمية في الوطن العربي أن يعرف أنه لم يعد هناك استقلال من خلال اختراق السيادة الوطنية، وهنا أشير إلى بعض ما قامت به المؤسسات والمنظمات تحت شعار التبشير بالمحبة والسلام والدين في لبنان وفي العراق وفي إفريقيا، ولا أشير هنا إلى الدور التخريبي الكبير والمباشر للمؤسسات الاقتصادية الأمريكية والفرنسية والبريطانية والمتعاونين معهم من أبناء البلاد العربية لأن ذلك معروف ولا يحتاج لتعريف كما أعتقد، (في مصر والأردن ولبنان على سبيل المثال) أما المنظمات الأخرى المذكورة ومن ضمنها الثقافية إن من خلال الملحقيات الثقافية التابعة للسفارات الأمريكية والفرنسية أو لتلك التي تعمل بشكل مستقل في الظاهر والتي لعبت دوراً أساسياً في عمليات جمع المعلومات لأجهزة المخابرات المختلفة وأهمها للـ(سي آي أي) التي استعملتها لتطوير خدماتها لمعرفة كيفية التحكم على البلاد العربية، فكما ذكرت أن البعثات التبشيرية البروتستانتية قد شقت الصف المسيحي في لبنان منذ بدايات القرن العشرين، حتى أن عدداً من المسيحيين اللبنانيين آنذاك فروا من لبنان إلى مصر لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا وأصبحوا من المشاهير في عالم الأدب والإعلام، أما في إفريقيا وتحديداً في جنوب السودان فقد لعبت البعثات التبشيرية المسيحية ومنذ منتصف ستينات القرن الماضي، دوراً أساسياً في ما آل إليه الوضع في السودان اليوم، وتنطلق هذه البعثات التبشيرية من عدد من الدول الأوروبية كما هو معروف ولكن أهمها تنطلق من مدينة ملبورن في أستراليا – على اعتبار أن اسم استراليا قد يبدو نظيفاً لدى البعض وأنها بلد يحلم به عدد كبير من المهاجرين -، مع التذكير بأن أهم قواعد التنصت والتجسس التي تستعملها أمريكا عبر الأقمار الصناعية موجودة في استراليا – كان يوجد في استراليا حتى منتصف تسعينات القرن الماضي 6 قواعد عسكرية أمريكية بحجة حماية أمن استراليا من الصين ومن دول أخرى في المنطقة، ومنذ منتصف التسعينات وحتى اليوم ازداد عدد تلك القواعد العسكرية حتى وصل إلى 9 قواعد معظمها يتمترس في غرب وشمال استراليا -، وقد استخدمت هذه القواعد في العدوان ضد العراق عام 1991، وفي غزو العراق واحتلاله عام 2003، كما أن هذه القواعد استخدمت في منتصف سبعينات القرن الماضي في الحرب ضد اليونان، ودليل آخر على دور تلك البعثات التبشيرية هو ما آل إليه الوضع في تقسيم تيمور إلى شرقية وغربية حيث كان لتلك البعثات التبشيرية الدور الهام في تقسيم تيمور إلى شقين مسيحي ومسلم إضافة لعمليات التجسس، فقد بدأ الاهتمام بتيمور منذ نهايات ستينات القرن الماضي إلى أن تم تنصير معظم أهالي شرق تيمور وبذلك تم زرع بذور الفتنة الطائفية التي وصلت إلى حد الاقتتال بين أبناء تيمور وكان ما كان من دمار وحروب فتدخلت تلك الهيئة الأممية المسماة هيئة الأمم المتحدة بحجة تقرير المصير، وهكذا تمت السيطرة على الجزء الغني بالنفط من تيمور وتم إعلان "استقلال" تيمور الشرقية وجرت انتخابات قالوا أنها "انتخابات ديمقراطية" وتم تسليم ذلك الجزء من تيمور إلى القوات الأسترالية بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار، والجدير ذكره هنا أن تلك البعثات التبشيرية التي لعبت الدور الهام في زرع بذور الفتن والطائفية في تيمور، وكذلك البعثات التبشيرية التي غزت جنوب السودان باسم تعاليم السيد المسيح عليه السلام تتخذ من ملبورن في استراليا قاعدة أساسية لها باسم السلام والمحبة!، وإذا أردنا أن نعرف المزيد عن دور البعثات التبشيرية فللنظر إلى خارطة العالم ولنبحث عن النفط والفوسفات والحديد والنحاس والذهب والألماس واليورانيوم وغير ذلك من خيرات طبيعية تختزن الأرض في أي بلد في العالم، فأنه لا محال أنك ستجد مبشرين باسم السلام والخير والمحبة والحفاظ على البيئة وغير ذلك من منظمات!!
وبما أن لبنان ليس بلد نفطي كما هو معروف ولكنني أؤكد بأنه يوجد بباطن أرضه كميات من النفط قيل أنها قليلة وأن استخراجها يكلف الكثير وأنها ليست بكميات تستأهل إخراجها، هكذا قيل في ستينات وسبعينات القرن المنصرم، على أية أن ذلك غير صحيح وهذا ليس مجال مناقشته الآن، وعندما يتم استخراج النفط في لبنان عندها نعرف حقيقة الأمر، وأؤكد بأن النفط موجود على طول ساحل شمالي لبنان ابتداء من الشاطيء المحاذي لنهر البارد وصولاً إلى الحدود البحرية مع سوريا، وأن ما يجري الآن هناك من معارك بين الجيش اللبناني وبين جماعة أسموها (فتح الإسلام) منذ أكثر من شهرين له علاقة بما هو مرسوم من مخططات اقتصادية سياسية أمريكية دولية لشمال لبنان وقد أشرت إلى ذلك مطولاً في كتابات سابقة منذ نهايات تسعينات القرن الماضي وحتى الأمس القريب، على أية حال إن سبب الاهتمام بلبنان ليس النفط كما أسلفت ولو آنياً على الأقل أو لحين كما يقال، بل أن المقصود هو حماية الكيان الصهيوني والانطلاق منه لغزو المجتمعات العربية سياسياً وثقافياً وفنياً كما ظهر مؤخراً من خلال برامج الفضائيات التي تم من خلالها غزو معظم إن لم أقل كل البلاد العربية وأماكن تواجد المهجرين والمهاجرين العرب في بلاد الغرب، إضافة إلى إقامة قواعد أمريكية يصل تعدادها إلى أربعة إحداها في شمال لبنان في بلدة القليعات والسيطرة على قمة جبل الباروك التي يريدون استعمالها كقاعدة للتنصت والمراقبة، بحيث يمكنهم أن يضعوا فيها أجهزة تنصت متطورة يصل مداها لتغطي وتكشف مساحة تمتد من لبنان على مدى البحر وصولاً إلى مدخل مضيق جبل طارق الذي يصل البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، وخلالها أيضاً يمكنهم التنصت على البلاد المجاورة للبنان، وسيكون لهذه القاعدة هدف أساسي وهو حماية الكيان الصهيوني في حال إذا قرر هذا الكيان إعادة بعض قرى مرتفعات الجولان إلى سوريا بحيث ستبقى بعض المرتفعات الاستراتيجية في هضبة الجولان تحت سيطرة الكيان الصهيوني أو الأمريكي لا فرق ويتم وضع "أجهزة إنذار مبكر" فيها كما حدث في سيناء مصر وبإشراف ظاهري لما يسمونه هيئة الأمم المتحدة وقواتها المسماة "القبعات الزرقاء".
أما الاهتمام بجنوب السودان فهو وبشكل علني وصريح، إقامة قواعد أمريكية هناك لتسيطر على تلك المنطقة الغنية بالنفط، كما أنهم يسعون للسيطرة من جنوب السودان على مناطق وسط إفريقيا، وكذلك السيطرة على الصومال من أجل النفط والذهب والألماس وغيرهم من الخيرات الطبيعية الغنية فيها تلك الأرض، إضافة إلى أنهم يريدون تأمين السيطرة التامة على البحر الأحمر وعلى أجواء تلك المنطقة الممتدة من اليمن حتى الجزيرة العربية لحماية قواعدهم العسكرية هناك، والغاية من ذلك هو السيطرة على الثروات الطبيعية لتك البلاد.
وأود الإشارة هنا إلى أنه بعد أن تم استعمال البعثات التبشيرية كما حصل في شمال وبعض مناطق العراق، وكما حصل مع مختلف لجان التجسس التابعة لما يسمونها الأمم المتحدة ومجلسها الأمني التي دخلت إلى العراق تحت مسميات الكشف عن أسلحة الدمار الشامل منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، فأنهم اليوم يستعملون أسلوباً جديداً وهو ليس بجديد عملياً، لأن المنظمات الدولية والخاصة التي تعمل تحت مسمى الجمعيات الخيرية أو المساعدات الإنسانية ومنها منظمات أسترالية وأوروبية وأمريكية كانت قد استعملت هذا الأسلوب في لبنان وفي العراق وفي مصر والسودان واليمن والجزائر وغيرهم من البلاد العربية، أما الجديد في ذلك فهو استعمال "شركات أمن خاصة" وآخر ما كشف عنه النقاب في هذا المجال هي شركة (ايغيس ديفانس سيرفيسز) البريطانية التي تعمل على جمع المعلومات كما يقولون - أي التجسس - وتقديم تلك المعلومات للبنتاغون ويتوقعون كما ورد في تقرير كتبه (ستيف فينارو) نشر في جريدة (الواشنطن بوست) بتاريخ الأول من تموز /يوليو الماضي "أن يتم إنشاء وحدة تتألف من 1000 رجل تكون مهمتها حماية (فوج المهندسين) التابع للجيش الأمريكي"، وقد وقعت المناقصة على هذه الشركة بمبلغ 293 مليون دولار لفترة ثلاث سنوات ستنتهي قريباً كما يبدو، لأن هناك عروضاً قد بدأت تعلن عن المناقصة الجديدة، حيث تتنافس شركات بريطانية وأمريكية لتجديد قيمة العقد لتحل محل هذه الشركة، وقد بلغت قيمة العقد الجديد 474 مليون دولار أمريكي، غير أن الاحتجاجات ضد إدارة بوش قد أخرت صدور القرار بشأن الشركة الفائزة بالعقد الجديد، كما ورد في تقرير فيناور في (الواشنطن بوست).
ما يهمنا في هذا التقرير هو ما أعلنته (كريستي كليمنز) نائبة الرئيس التنفيذي للشركة المقيمة في أمريكا أن هدفهم "هو تقديم حقائق ميدانية لأسلاك الجيش، وقد أنفقت شركة (ايغيس) نحو مبلغ (425 ألف دولار أمريكي) من مال الشركة ومن تبرعات خاصة على أزيد من (100) مشروع خيري صغير في العراق، مثل ملاعب كرة القدم وبرامج تطعيم الأطفال، حيث تمكن هذه المشاريع الصغيرة الشركة من تطوير العلاقات مع المجتمعات التي تعمل فيها وجمع المعلومات في الوقت نفسه"!.
وقال (جاستن ماروتزي) المدير السابق للشؤون المدنية في الشركة وهو حالياً يعمل مستشاراً مع شركة أخرى في لندن، "أن الشركة قامت بتوزيع بذلات رياضية على مدارس الفتيات في إحدى مناطق شرق العراق حيث كان السكان يرمون فرق (إيغيس) بالحجارة عادة، وقد توصلت الشركة من خلال العلاقات التي تم نسجها بفضل هذا المشروع الخيري، إلى خلية تمرد كانت تعمل من داخل مكتب المسؤول المحلي في تلك المنطقة من شرق العراق فتحرك الجيش بناء على هذه المعلومة وقام بما يستوجب القيام به" بحسب قول (مارتزوي)، كما ورد في تقرير فيناور في (الواشنطن بوست).
وحالياً وتحت شعار (كسب القلوب والعقول) تم نشر عدد من المجموعات في مناطق أخرى من العراق لتقوم بما قامت شركة (إيغيس) من "أعمال خيرية" في شرق العراق!!
هكذا إذاً تعمل هذه المؤسسات الأمنية اليوم في العراق في سعيها للسيطرة الأرضية العصية عليهم.
وأخيراً ما هي المجتمعات المؤهلة للغزو؟ وما هي المجتمعات المحصنة ضد أنواع الغزو؟
لا توجد عملياً مجتمعات محصنة ضد أنواع الغزو، ولكن توجد نسب مئوية تختلف بين هذا البلد وذاك، أي أن كل المجتمعات في النهاية ليست محصنة، وكلها مؤهلة لأنواع الغزو الثقافي والفني، أما الغزو العسكري والديني فهو من أسهل ما يكون في البلاد التي لا يوجد لديها اكتفاء ذاتي زراعي وغذائي وصناعي نسبي، وشعوب البلاد التي تلبس مما لا تصنع، وتأكل مما لا تنتج، حيث يزداد عدد الفقراء كما يزداد فيها عدد الأغنياء، وتمنع فيها حرية الرأي والتعبير ويكثر فيها تكميم الأفواه ونزلاء السجون من السياسيين وأصحاب الأقلام الحرة، ولا توجد فيها مشافي ومدارس للمواطنين إلا لمن يملك المال والجاه، والكثير مما يمكن تعداده في هذا الصدد، ولكن أكتفي بما تقدم مع الإشارة إلى أن السيطرة في عالم اليوم تبدو واضحة لمن يمنح المال والكساء والغذاء وهذه بالطبع لا يمكن تقديمها خدمة خالصة لوجه الله الكريم وهو ما تقوم به البعثات التبشيرية و"المؤسسات الأمنية الخاصة" التابعة لقوى طاغوت الشر الصهيو-أمريكي، وأضيف بأن الخطر الكبير اليوم هي تلك المجموعات التي تنشر المخدرات في العراق، القادمة من إيران ومن الكيان الصهيوني ومع مرتزقة القوات الغازية والمحتلة، لذلك أقول إنهم يشترونكم فاحذروهم، وقديماً قيل لا توصي حريص، وقيل في المقابل أن الجوع كافر، وقيل كذلك اللهم احمني من صديقي أما عدوي فأنا كفيل به، وقيل أيضاً وما على الرسول إلا البلاغ.
ألا هل بلغت؟.. اللهم فاشهد..
لمصدر: المحرر