الطائفية .. شجرة خبيثة اقتلعها صدام حسين
الطائفية .. شجرة خبيثة اقتلعها صدام حسين
السيد أبو داود
الأحد 18 من ذو الحجة 1427هـ 7-1-2007م
كتب الكثيرون عن مغزى وأهداف ودلالات ونتائج وتداعيات إعدام الرئيس العراقي صدام حسين، ولأن جوانب الموضوع كثيرة فسوف أتوقف عند جانب واحد، أو قضية واحدة أجاد فيها صدام. هذه القضية هي وأده وقتله للطائفية بكل أشكالها، ورفضه إقامة دولة العراق على أسس طائفية قاصرة ومريضة ومتعصبة، تقوم على تغذية الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، بدلاً من غرس الوئام الاجتماعي عبر سياسات يتساوى أمامها الجميع.
وقد أتاحت لي ظروفي أن أقيم بالجنوب العراقي فترة تزيد عن العام ونصف العام، وكانت الإقامة في مدينة السماوة الشيعية خلال عامي 1986، 1987. وفي هذه الفترة أتيح لي أن أتعرف على تفاصيل الحياة في المجتمع العراقي، وكيف كان صدام حسين يدير العراق، وما هي طبيعة علاقاته بالشيعة ورموزهم.
وقد دخلت في مناقشات مع شباب الشيعة وتعرفت على ثقافتهم، مع الأخذ في الاعتبار أنهم يعتمدون مبدأ التقية، خاصة مع سني مثلي وفي مجتمع أقام أركانه الرئيس السابق صدام حسين.
كبار الشيعة كانوا يخفون توجهاتهم الطائفية، لكن تصرفاتهم معي كانت تنضح بالطائفية والكراهية لكل ما هو سني. أما الشباب الذين كنت أتحدث معهم فكانوا يعبرون عن هذه الطائفية بمجرد سخونة الحوار.
ولفت انتباهي أمران: الأمر الأول أنه لا يوجد في هذا الوسط الشيعي الذي كنت أعيش فيه أسماء مثل (أبو بكر ـ عمر ـ عثمان)، وذات يوم وجدت شاباً اسمه عمر وهو من أبناء هذه المدينة الشيعية، فاستغربت ذلك، وحينما تقصيت الأمر قالوا لي إن أمه كانت تفقد صغارها، فأطلقت على ابنها هذا الاسم غير المرغوب فيه لعله لا يموت مثلما مات أشقاؤه الصغار من قبل.
الأمر الثاني الذي لفت نظري هو أنني حضرت يوماً مجلساً لأحد أعيان الشيعة، بصحبة أحد العراقيين السنة، ولاحظت أن مضيفنا الشيعي لا يتلفظ بأسماء أبو بكر وعمر وعثمان، وإنما يقول الخليفة الأول والخليفة الثاني والخليفة الثالث.
أثناء فترة وجودي هذه في العراق تعرفت على كثير من الشباب الحركي، سواء من حزب الدعوة الشيعي المحظور الذي كان يعمل تحت الأرض، أو من الإخوان المسلمين .
جلست مع هؤلاء الشباب كثيراً وتناقشنا كثيراً، ربما كان بعضهم يشكو من حزب البعث ولكن لم يشك أحد من ازدواجية التعامل , نعم كان صدام حسين شديدا مع الاتجاهات التي تتعارض مع خياره الفكري والسياسي، فقد وضع معايير لإدارة الأمور في العراق، الكل يعرفها وليس من ضمنها الانتماء الطائفي.
لم يكن لدى صدام معايير مزدوجة
بل إنني ـ كمواطن مصري وعربي ـ حينما كنت أتوجه إلى أية مصلحة حكومية أو قسم للشرطة، لم أكن أشعر أنني غريب، ولم يكن هناك ازدواجية في المعاملة بين المواطن العراقي والمواطن العربي الوافد أبداً. وربما كانت هذه النقطة بالتحديد هي السبب في تعلق ملايين المصريين البسطاء الذين عملوا في العراق بشخص صدام حسين. لقد كان عدد المصريين المقيمين في العراق، إبان حكم صدام، وقبل غزو الكويت، يتراوح بين مليون ونصف إلى مليوني مصري، أي أنهم كانوا يشكلون بلداً ومجتمعاً بالكامل، وقد لاقى هؤلاء أفضل معاملة من أجهزة الدولة، وعملوا في مختلف وظائف الحكومة والقطاعين العام والخاص.
ولو كانت هناك معايير مزدوجة لشعر بها هؤلاء من أول يوم، بل إن من بين هؤلاء المصريين كان يوجد عشرات الآلاف من المواطنين المصريين النصارى، وقد عوملوا بدون أي تمييز بسبب الدين. وكثير من هؤلاء حينما كانوا يختصمون مع مواطنين عراقيين كثيراً ما كانوا ينصفون من العراقيين.
وقد كان بقية المواطنين العرب، مغاربة وتوانسة وسودانيين، يلقون نفس المعاملة الحسنة وعدم التفريق بينهم وبين العراقيين. بل الأكثر من ذلك كان العمال غير العرب من الهنود والكوريين يعيشون كما لو كانوا في بلادهم.
لم يلحظ أحد من هؤلاء أي فروق في المعاملة من الدولة بين السنة والشيعة والأكراد. لم يكن هناك أي مستوى من مستويات التعامل الطائفي.
في الجنوب الشيعي، كان حزب البعث هو المؤسسة الأقوى كما هو الحال في كل مناطق العراق، وكان قادة الحزب ومسئولوه في هذه المناطق من الشيعة وليسوا من السنة، ولو كانت الأمور تدار على أساس طائفي لتم اختيار هؤلاء من السنة.
لكن يوم أن سقط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، وجاء رموز الشيعة على ظهر الدبابات الأمريكية، وبعد أن مرت الأيام والشهور والأعوام، أصبح كل يوم يمر يؤكد لأمثالي، الذين يكرهون الطائفية، أن الطائفية التي يحملها هؤلاء موجودة بعنف، لدرجة أنها تملأ قلوبهم غلاً وحقداً على كل ما هو سني.
لقد أراد هؤلاء أن ينتقموا لما مر بهم من أحداث على مر التاريخ الإسلامي، صنعوها بأنفسهم، وطبعاً عدوهم فيها هم السنة.
كانت إيران هي المحرك الأساسي لهذا الانتقام الطائفي، فبعد أن تعاونت مع الأمريكان لإسقاط "طالبان" السنية، تحالفت أيضاً معهم لضرب سنة العراق وتهميشهم والانتقام منهم عن كل الإحباطات التاريخية التي مر بها الشيعة.
لم يبن صدام دولته على أسس طائفية في يوم من الأيام، صحيح أن عشيرته كانت موجودة لتوفير الدعم له، لكن معيار دولته لم يكن طائفياً، والدليل على ذلك أن قائمة المطلوبين التي أعدها الأمريكان بعد احتلالهم العراق كانت تضم كبار المساعدين لصدام، ومنهم السني والشيعي والكردي .
لقد طفت العراق شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، فلم ألحظ تفرقة بين مدينة في الجنوب الشيعي وأخرى في الوسط السني، فالخدمات واحدة، وقواعد التوظيف واحدة، ومعايير العدالة واحدة. ولم نعثر على شيعي أو كردي يشكو من سوء المعاملة أو تفضيل سني عليه. فالجيش مؤسسة عامة تجمع الجميع وفق أهداف قومية، والمخابرات كذلك، وأيضاً جهاز الشرطة.
نستطيع أن نقول بكل اطمئنان إن الدولة التي أقامها صدام حسين في العراق قد وفرت الحماية للجميع ولم تفرق بين مواطنيها على أساس الطائفة أو القومية أو حتى الدين، ولم يتعرض عراقي واحد خلالها إلى اعتداء بسبب انتمائه المذهبي أو القومي أو الديني. كما لم يستأثر مذهب معين أو قومية معينة بالمناصب والثروة.
إذا تأكد لنا هذا، وهو ثابت ومؤكد، فإنه يكشف أي حد من البشاعة الطائفية وصل لها المسعورون أذناب طهران وعملاء واشنطن، الذين جعلوا الطائفية البغيضة هي الأساس الأول لإقامة سلطانهم ودولتهم.
ملعون من أيقظ الطائفية
إن التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام الغربية تؤكد أن عشرة أحياء من بغداد، كانت مختلطة منذ نحو سنة، تحولت إلى شيعية بالكامل، وأن الميليشيات الشيعية، ومعظمها مرتبط بالائتلاف الحاكم، تعيد رسم الخريطة المذهبية لأحياء العاصمة التي يعيش فيها ربع سكان العراق تقريباً.
إن الغالبية الشيعية تتحرك لتطبيق حلها الخاص، وهو السيطرة على العاصمة عبر طرد الأقليات السنية من مناطق مختلطة مذهبياً. وخلال الشهور الماضية، أصبحت قطاعات كاملة من بغداد شيعية، مما أدى إلى نزوح آلاف السكان السنة.
القتل اليومي في العراق لا يتوقف، وما لا تقوله وسائل الإعلام إن معظم الضحايا الذين تظهر على جثثهم آثار التعذيب، هم من أهل السنة، وإن الحكومة تدير شبكة الإرهاب الطائفية التي توزع القتل عليهم في كل شبر من أرض العراق، لا سيما العاصمة بغداد.
لقد نظر الطائفيون الشيعة إلى عملية إعدام صدام بوصفها تتويجا لانتصارهم التاريخي في العراق. فمنذ احتلال البلاد احتفلوا بالحدث، واستقبلوا الأميركيين استقبال الفاتحين، وحرّموا مقاومتهم، وقادوا العملية السياسية تحت حراب الاحتلال، بل شاركوا في قمع وحشي للمقاومة، وأسرفوا في استباحة دماء أهل السنة، سيما النخب والعلماء والرموز.
العالم كله أصبح مقتنعاً، نتيجة لما تنشره وسائل الإعلام العالمية، عن جرائم الميليشيات الشيعية التي لم يعد لها عمل سوى استهداف أهل السنة قتلا وخطفا ونهبا واغتصابا، ووسائل الإعلام هذه تنشر نماذج لهذه الجرائم.
والملاحظ أن القيادات السياسية الشيعية قد حددت خطها السياسي بالارتماء في أحضان واشنطن وطهران، واختيار الأسلوب الطائفي كأسلوب للعمل السياسي والإعلامي. ويكفي أن نشير هنا إلى قول لرئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري لبعض المحيطين به، ويحتفظ الحزب الإسلامي بتسجيل لهذا التصريح، الذي يقول فيه الجعفري: "وشرف السيدة زينب إذا بقيت في مكاني رئيساً للوزراء فلن أجعل في بغداد سنياً واحداً".
وبينما القيادات الرسمية الشيعية منغمسة في وحل الطائفية لهذا الحد، فإن القيادات الرسمية والمدنية لأهل السنة تنأى بنفسها عن الخطاب الطائفي، وتحرّم قتل الشيعة، وتدعو إلى التسامح وتغليب القواسم المشتركة على ما يفرق الصفوف ويسكب الزيت على النار.
فهيئة علماء السنة، سمت نفسها (هيئة علماء المسلمين)، ومؤتمر أهل العراق الذي يقوده السنة، حرص على اتخاذ اسم (العراق) الجامع هوية له، وابتعد عن المسميات الطائفية. لم يثبت أبدا أن قادة السنة الدينيين والسياسيين قد رفعوا شعارا طائفيا، أو حرضوا على الشيعة (باستثناء تنظيم القاعدة الذي لا يعتبر ممثلا لسنة العراق).
شهية طائفية لا تشبع
إن شهية الطائفيين الشيعة مفتوحة للمزيد من الاستئثار بالسلطة والأرض والثروة، وهم يخططون لإقامة إقليم شيعي كبير يضم 9 محافظات في الجنوب، تتركز فيها الثروة النفطية، ولتحقيق ذلك فان مجموعات من الغلاة، الذين انخرطوا فيما سمي بفرق الموت، عمدت إلى تهديد أهل السنة في الإقليم المفترض، لضمان نقائه المذهبي، في خطوة لا سابقة لها في التاريخ العراقي، حيث ظلت القبائل والعشائر والزيجات تضم طول الوقت خليطا من السنة والشيعة. ولكي يحقق التهجير أهدافه، فان مختلف أساليب الترويع استخدمت فيه، حتى لم تتورع جماعات الغلاة عن قتل الأشخاص وهتك الأعراض ونهب الأموال وهدم البيوت وتفجير المساجد.
فرق الموت التابعة لمقتدى الصدر (والمنتمية لجيش المهدي) متورطة بعمليات تهجير وقتل على الهوية في العاصمة. هذه الجماعات مندفعة في عملية التطهير لإخلاء بغداد من السنة، وقد تحقق لها ما أرادت في شرق بغداد، وهي الآن تهاجم بشدة أحياء غرب المدينة، الأمر الذي ينذر بسقوط العاصمة بأيديهم إذا لم يتم تدخل الدول العربية السنية.
أما مليشيا "فيلق بدر" فقد استغلت الفراغ الأمني الذي أعقب إعلان الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر حل الجيش والشرطة العراقيين، للتحرك بحرية حركة واسعة في مناطق كثيرة من العراق، وتمكنت من احتلال مباني كبيرة، بعضها من مقرات حزب البعث في كربلاء والنجف، لاستخدامها كمكاتب لهم.
وكوّن هذا الفيلق المشئوم "فرق الموت" ووزع عليها قوائم جماعية بأسماء المستهدفين، لقتل من ورد اسمه فيها، وقام بعمليات اغتيال للعشرات من أنصار النظام السابق، وتصفية العشرات من وجهاء السُّنة من شيوخ عشائر، وأئمة مساجد، ومثقفين وتجار وأطباء، في حوادث قتل وصفت بـ "الغامضة"، قامت بها فرق مدربة على الاغتيالات.
ثقة مفقودة
مشهد تنفيذ الإعدام في صدام حسين وما أحاط به من إشراف مجموعات طائفية عليه، والهتافات الطائفية الشامتة والمتعصبة التي أطلقوها، والممارسات التي حدثت في قاعة التنفيذ التي بدت أقرب لغابة تتم فيها تصفية الحسابات والأخذ بالثأر بين طرفين متصارعين، أحدهما انتصر على الآخر، كل ذلك يبين أن الحكومة الشيعية الطائفية، لم تستطع التحكم في عملية التنفيذ، ولم تتمكن من السيطرة على سباب المتطرفين الطائفيين وإهاناتهم وغوغائيتهم التي وصلت للسباب والتهليل والركل والبصق، بل وصلت إلى حد الرقص حول الجثة.
وإذا كانت الحكومة الشيعية الطائفية لم تستطع التحكم في موقف مثل هذا، فهل نثق فيها لكي تدير بلداً مترامي الأطراف، ومليء بالمشاكل والاتجاهات؟.
المصدر: مفكرة الاسلام